الأسد وصندوق روسيا الأسود: لماذا ترفض موسكو تسليم حليفها رغم سقوطه؟


هذا الخبر بعنوان "لماذا ترفض روسيا تسليم الأسد رغم سقوطه… قراءة دقيقة في عقل الدولة العميقة" نشر أولاً على موقع syriahomenews وتم جلبه من مصدره الأصلي بتاريخ ٢٣ كانون الأول ٢٠٢٥.
لا يتحمل موقعنا مضمونه بأي شكل من الأشكال. بإمكانكم الإطلاع على تفاصيل هذا الخبر من خلال مصدره الأصلي.
يؤكد الدكتور مهدي مبارك عبد الله أن السياسة الدولية لا تعرف المناطق الرمادية بين الحماية والخيانة، وأن القرارات فيها لا تُقاس بالمعايير الأخلاقية، بل بمستوى الخوف والحذر. من هذا المنطلق، يجب فهم الإصرار الروسي الشديد على عدم تسليم الرئيس السوري السابق بشار الأسد. فموسكو لا تدافع عن شخص سقط نظامه أو انتهى حكمه، بل عن ذاتها، وعن نموذجها كقوة عالمية لا تتراجع، ولا تعتذر، ولا تتخلى عن حلفائها مهما بلغت تكلفة التضحيات. هذا الموقف يعزز ادعاءات روسيا بأنها تختلف عن الغرب، ولا تترك حلفاءها عرضة للاعتقال. فالموافقة على تسليم الأسد اليوم ستُعد اعترافًا صريحًا بأن حرب عام 2015، بكل تكلفتها البشرية والاقتصادية والسياسية، لم تكن سوى حماية مؤقتة، ولم تهدف إلى إنقاذ دولة بل تأجيل سقوطها. كما أن الدعم اللوجستي والسياسي والدبلوماسي المقدم لم يكن كافيًا لبناء نظام مستقر. روسيا، بطبيعتها، لا تعترف بالفشل، بل تسعى لمعاقبة من يذكرها به، لأنها لا تزال تسوق نفسها في دول أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية كضامن أخير للأنظمة المهددة بالانهيار، على عكس النظام الغربي المتقلب الذي يتخلى عن أقرب أصدقائه عند أول منعطف.
الأخطر في معادلة تسليم الأسد هو التفسير الذي قد يُعطى له داخل المنظومة الروسية نفسها، حيث سيُعتبر كسرًا للعقد غير المكتوب بين الكرملين ونخبه الأمنية والعسكرية. فالدولة التي تطلب من ضباطها ورجالها القتال في الخارج لا تحتاج إلى وعد غير معلن بأن من يخدم المشروع الروسي لا يُترك حتى لو سقط المشروع نفسه. وأي تصدع في هذا الوعد يهدد تماسك النظام من الداخل، ليس في سوريا وحدها، بل في كل ساحات النفوذ الروسي متعددة الأقطاب.
هناك فهم روسي دقيق، لا يُقال علنًا، بأن الأسد ليس لاجئًا عاديًا، بل هو صندوق أسود ورجل يعرف تفاصيل دقيقة لم تُكتب في أي وثيقة رسمية عن طبيعة التدخل الروسي والخطوط الحمراء مع إسرائيل والتفاهمات في الجنوب، وعن الصفقات الصامتة مع خصوم غير معلنين. وتسليمه لا يعني محاكمته فقط، بل فتح فمه وكشف الأسرار، سواء أراد ذلك أم أُجبر عليه. وفي السياسة الدولية، الشهود من هذا النوع وبهذا الحجم هم أخطر من المتهمين أنفسهم، والأسد أصبح عبئًا لا يُرمى.
الحديث عن إمكانية عقد صفقات محتملة مع الروس مقابل القواعد أو القمح أو العقود هو مجرد قراءة سطحية مبسطة لعقل استراتيجي منظم لا يقايض السمعة بالمال والمصالح. فروسيا قد تخسر قاعدة وتبني أخرى، وقد تلغي عقدًا وتوقع غيره، لكنها إذا ما خسرت ثقة الأنظمة الهشة التي تراهن عليها في جولات عديدة، فإنها ستخسر مشروعها التوسعي بأكمله. وتسليم الأسد سيفهم بأن موسكو تحميك ما دمت مسيطرًا وقويًا فقط.
التاريخ الروسي في هذا السياق واضح وملتزم، فموسكو لم تُسلّم يانوكوفيتش الرئيس الأوكراني السابق، ولم تُسلّم من سبقوه أو لحقوه، ولم تفعل ذلك حتى في لحظات قاسية كانت فيها بحاجة ماسة لرضا الغرب. وعلى عكس ذلك، بنت روسيا صورتها الدولية بوصفها نقيضًا للنموذج الغربي الذي انتهت فيه تحالفات كبرى إلى مشاهد إذلال وقتل وإعدام علني. وهذه الصورة، مهما كانت كلفتها الأخلاقية كبيرة، إلا أنها تبقى رأس المال السياسي الذي لا تفرّط به موسكو تحت أي ضغوط أو ظروف.
هذا الواقع بتزمته الشديد لا يعني كليًا بأن الأسد بات في مأمن مطلق، خاصة وأن روسيا لا تحب الأعباء طويلة الأمد وهي بارعة في تحويل الحلفاء السابقين إلى أشباح صامتة. وقد يُترك الأسد في عزلته حتى ينساه العالم، وربما تُشدّد القيود المفروضة عليه. وقد يختفي الأسد من المشهد كليًا وينتهي في عزلة تامة، لكنه لن يُنقل مكبّلًا إلى دمشق، لأن ذلك سيعني أن روسيا قبلت أخيرًا بقواعد اللعبة التي طالما أعلنت رفضها. ولهذا اختارت السمعة بدل العدالة.
خلف هذا المشهد المعقد، ثمة بعد أكثر حساسية لا يُقال في التصريحات، ويتمثل في طبيعة العلاقة الشخصية بين الأسد وبعض الدوائر الضيقة داخل الدولة الروسية. فالرجل لم يكن مجرد حليف عسكري، بل كان جزءًا من منظومة ثقة شديدة الخصوصية سمحت لموسكو بالوصول إلى ملفات أمنية وإقليمية معقدة، من شبكات تهريب السلاح إلى خرائط النفوذ الإيراني وصولًا إلى قنوات خلفية مع أطراف إقليمية معادية ظاهريًا. والموافقة على تسليم الأسد تعني عمليًا فتح الباب أمام تسريبات لا يمكن التحكم بها حتى لو جرت محاكمته داخل سوريا.
البعض قد يتساءل ما الذي تخسره روسيا إن سلّمت بشار الأسد؟ والإجابة هي أنها تخسر الأساس الذي قامت عليه سياستها الخارجية خلال العقدين الأخيرين، وتخسر الصورة التي صنعتها عن نفسها كقوة بديلة للغرب، قوة لا تتراجع ولا تتنصل من حلفائها حين تتغير الرياح. والخسارة الأعمق تتعلق بالرواية ذاتها، فمحاكمة الأسد، إن حدثت، لن تكون مسرحًا للعدالة بل ساحة لتفكيك الدور الروسي بكل تفاصيله، وتستدعى أدوار الطائرات التي قصفت والفيتو الذي عطّل والخرائط التي رسمت خلف الأبواب المغلقة. وستتحول الأسئلة أيضًا من ماذا فعل الأسد إلى من حماه ومن سلّحه ومن منحه الغطاء السياسي. عندها لن يكون رأس الأسد سوريًا فقط بل روسي الحسابات، ولن تكون موسكو بصدد حماية رجل بل محاولة يائسة لحماية قصة كاملة عن نفسها كدولة لا تُهزم ولا تعتذر. ولهذا تتمسك روسيا بالأسد لا بدافع الحب والوفاء، بل بدافع الخوف من لحظة يُعاد فيها كتابة تاريخها الحديث على لسان خصومها، بينما بقاؤه تحت الإقامة الصامتة شبه الجبرية يضمن احتواء الخطر المتوقع.
في ذات السياق، لا يمكن فصل الموقف الروسي عن حسابات ما بعد الحرب الأوكرانية. فموسكو التي قد تجد نفسها في لحظة تفاوض كبرى مع الغرب لا تريد أن تقدم سابقة أخلاقية مجانية تُستخدم ضدها لاحقًا. وتسليم الأسد اليوم قد يُستثمر غدًا للمطالبة بتسليم شخصيات روسية أخرى أو حلفاء جدد أو حتى مسؤولين من الصف الأول بحجة العدالة الدولية. والكرملين يرى في هذا المسار فخًا مبهمًا طويل الأمد لا صفقة آنية مفهومة في تحالف ما بعد السقوط.
الأكثر قسوة في منطق التحليل السياسي الشمولي أن العدالة نفسها، في عرف الدول الكبرى، ليست هدفًا بل أداة. وما تطلبه دمشق الجديدة ليس مستحيلًا أخلاقيًا لكنه مستحيل سياسيًا في ميزان القوى الحالي. فروسيا لا تفاوض على أشخاص بل على أنماط سلوك، وإذا كُسر هذا النمط مرة واحدة فلن يعود قابلًا للإصلاح. ولهذا قد ينتظر الأسد سنواته الأخيرة في عزلة باردة، لكن لن يُقدَّم قربانًا لأن رأسه لا يخص سوريا وحدها بل يمس صورة روسيا عن نفسها ودورها في المنطقة. (بشار الأسد الشاهد الذي لا تريد موسكو أن يتكلم).
من يطالب روسيا بتسليم بشار الأسد لا يفهم روسيا أو يتظاهر بعدم فهمها. فالدول العظمى لا تُحاسَب بمنطق المحاكم ولا تُدار بعاطفة الضحايا، بل بمنطق الروايات التي تحمي بها نفوذها وذاكرتها وهيبتها. وتسليم الأسد لن يكون فعل عدالة بل اعترافًا روسيًا مدويًا بالفشل، وإقرارًا بأن حربًا كاملة انتهت بتقديم الحليف قربانًا سياسيًا. وموسكو لا يمكنها تحمّل هذا المشهد لأن المسألة لم تعد تتعلق برئيس مخلوع، بل بسؤال أخطر: هل ما زالت روسيا قوة تُمسك بخيوط اللعبة أم أنها أصبحت طرفًا ضعيفًا يُجبر على الانصياع لقواعد لم يصنعها؟ في هذا السياق يصبح الاحتفاظ بالأسد ليس خيارًا بل ضرورة دفاعية، لأن رأسه بات اختبارًا مباشرًا لهيبة دولة تعرف أن خسارة الرواية أخطر من خسارة أي رجل، لأن موسكو لا تدافع عن الأسد بل عن نفسها. ومن الأفضل لموسكو أن يُدفن الأسد سياسيًا ولا يُسلَّم قضائيًا. في النهاية، العدالة التي يطالب بها السوريون مشروعة أخلاقيًا لكنها تصطدم عمليًا بجدار صلب اسمه توازن القوى. والدول الكبرى لا تسلّم حلفاءها السابقين، بل تعطي للشعوب دروسًا قاسية عن حدود القانون في عالم تحكمه المصالح. وبقدر ما يبدو بقاء الأسد في موسكو إهانة للعدالة، فهو في منطق السياسة رسالة أوضح للحاكم مفادها أنك حين تختار أن تكون حليفًا لقوة عظمى، فإن مصيرك لا يُحسم في المحاكم بل في أرشيف الصمت الأبدي كوثيقة سرية لا تُسلَّم خوفًا من العدالة التي تخشاها روسيا أكثر من الحرب حين يتحول القضاء إلى تهديد وجودي وخطر استراتيجي للدولة الروسية. (أخبار سورية الوطن 2_وكالات _رأي اليوم).
سياسة
سياسة
سياسة
سياسة