وداع عام مضى واستقبال آخر: تأملات في زمن الأزمات وتطلعات البشرية


هذا الخبر بعنوان "قُرِعَتِ الأجرَاس وتعالت الأصوَات المُجلْجِة مُهلِّلةًً بمَقدَم العام الجديد" نشر أولاً على موقع syriahomenews وتم جلبه من مصدره الأصلي بتاريخ ٣١ كانون الأول ٢٠٢٥.
لا يتحمل موقعنا مضمونه بأي شكل من الأشكال. بإمكانكم الإطلاع على تفاصيل هذا الخبر من خلال مصدره الأصلي.
مع انقضاء عام 2025، الذي مضى وانزوى كالسيل العارم في طيات الزمن وثنايا النسيان، نستقبل عاماً جديداً هو 2026. يرى د. السفير محمّد محمّد خطّابي أن هذا العام المنصرم قد حمل معه أحزاننا وهمومنا ومآسينا، تاركاً أيامه ولياليه الجديدة في غياهب الكتمان وضبابية المجهول، مع أمل أن يكون خيراً من سابقه.
لقد أصبح عالمنا المعاصر، رغم صغره، يعج بمشاكل لا حصر لها. فخلال العام الماضي، لم نسمع في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي سوى أخبار الأمراض الفتاكة والحروب الطاحنة والمعاناة الشديدة والموت الزؤام. كما امتلأت حياتنا بأخبار الفواجع الطبيعية والحوادث المؤلمة وجرائم الإنسان، بالإضافة إلى العنصرية المقيتة والقتل والتقاتل الأرعن، وتفاقم البطالة وتصدع الاقتصادات وكساد التجارات، وتكاثر الفيضانات والجفاف. ومع ذلك، لا نزال نرفع أكفنا إلى السماء، متمنين انفراج الأزمات.
في اللحظة الفاصلة بين العامين، تتجلى وجوه باشّة وقلوب تخفق سعادة، وأيادٍ تتصافح مهنئة بانتهاء حقبة وبزوغ أخرى. تسبح المدن الكبرى في فضاء بهيج تضيئه أضواء النيون، بينما يظل الظلام الدامس مطبقاً في أماكن أخرى يجهلها الكثيرون. وفي غمرة الاحتفالات، حيث تدور الكؤوس وتمتلئ البطون بالطعام والشراب، يغفل المحتفلون عن أولئك الذين يلفهم البرد القارس والثلج المتكاثف، ويمزق أوصالهم الجوع والبؤس والكآبة. فبينما يوجد فائض وتضخم، هناك بالمقابل عوز وخصاصة وفقر، وشموع رأس السنة الخافتة التي تفتقر إلى الزخارف والألوان.
في الزمن الغابر، كان البدائيون يبكون غياب الشمس وينتحبون سدول الليل، لأنه كان يسرق منهم الضياء والدفء. أما اليوم، فيهلل الناس لمقدم الليل ويضجرون من انصرام النهار، لأن الليل أصبح ساكناً هادئاً حالماً، خالياً من القيظ والحر والقر، بفضل المدفآت التي يتحكمون في حرارتها. فالنهار للكادحين في الحقول والمصانع والمقالع، بينما الليل ملك لهم. لقد انقلبت الآية، وأصبح الناس يتشاءمون من غياب النهار ويهللون لمقدم الليل. على النقيض، كان بودلير يكره الليل لأنه كان يزيد من آلامه المبرحة، بينما طاغور العظيم في "إنتقام الطبيعة" لم يكن يهمه انشطار الليل والنهار، فتيار الزمن عنده قد توقف، وهو يعيش وحيداً في كهفه المظلم، منغمراً في ذاته، منشداً ترتيلة اللاشيء كإنسان حر.
يصيح الكل ويرقص طرباً بمقدم العام الجديد، متخلصين من أدران العام الآفل ومآسيه، ومستبشرين خيراً في العهد القادم المجهول. الكل ينشد السعادة في عالم مشحون بالشقاء. ورغم أن البشرية ما زالت بخير، وقلّت الحروب، إلا أنها لا تزال تدور رحاها في أماكن بعينها من العالم، حيث تتسلل الفتن والقلاقل والثورات. هناك، يحتسي القوم الذين وُهموا بالنصر نخب العام الجديد في جماجم بشرية، وحشيتهم أشد فتكاً من أنياب الذئاب. يدعو البعض إلى النسيان والتناسي، وإلى محو كل شيء من الذاكرة ولو إلى حين، وإقامة برزخ واسع بيننا وبين الأحزان.
يتذكر الكاتب الشاعر كامل الشناوي، الذي صاح ذات يوم في خلاّنه المهنئين له: "عدت يا يوم مولدي / عدت يا أيّها الشقيّ الصّبا ضاع من يدي / وغزا الشيبُ مفرقيّ". كان الشناوي صادقاً مع نفسه، متوجساً من يوم مولده، لأنه يدرك فداحة الموقف بالنسبة له وللآخرين، مديناً الزمن الذي لا يتوقف عن الدوران حتى يصادف اليوم الذي زج به في هذا العالم المشحون بالعنف والشقاء. ويرى الكاتب أن هذا المعنى ينطبق على انقضاء عام وقدوم آخر، فالعام الجديد بمثابة عيد ميلاد للبشر، يحتفلون به جماعة، رغم أن صلة هذه المعاني بالألم والحزن أقرب منها إلى الفرح. ومع ذلك، يتمادون في لامبالاتهم، متظاهرين بالسعادة، ربما من باب الانتقام واغتنام الفرص، عملاً بنصيحة الخيّام: "تمتّع بيومك، قبل غدك، فمن أدراك أنك راءٍ هذا الغد المجهول"، أو "الماضي فات والمؤمّل غيبٌ / ولك السّاعة التي أنت فيها".
لقد كسدت أسواق الفكر الخلاق، ونشطت حركات التقاليع الرخيصة في دنيا الفنون والجنون. البشرية غزا الشيب مفرقها، وأضاعت عمرها في ويلات التقاتل والتشاكس والعداوة. ظلم الإنسان لا يقتصر على بني طينته، بل يطول الطبيعة المهَانة والكائنات الحية. فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي يقتل للمتعة وإشباع رغبة الانتقام. وفي هذه الأيام، يتسارع الناس في الشوارع والدروب، ويقتنون الحاجيات والهدايا بشره ونهم، ويقلعون بلا رحمة شجيرات الصنوبر المسكينة وأغصان الأرز البريئة التي نحن في أمس الحاجة إليها، متجاهلين سياسات المحافظة على البيئة ومحاربة التصحر. يتساءل الكاتب: كيف تسمح لنفسك أيها الإنسان أن تتطاول وتتجنّى على الطبيعة أمنا، وتقتل تلك الشجيرات اليانعة لتجعلها زينة وقتية في منزلك، بينما كان أجدر بك تعميق فكرك فيما يدور حول العالم من رزايا وأهوال وحروب فتّاكة؟
تحمل الحضارة المعاصرة إلينا عشرات المفاجآت كل يوم، فما كنا نظنه خرافة بالأمس أصبح حقيقة اليوم. لم نعد نفرق بين الأحداث، حتى أصبحنا نؤرخ لها بالأعوام، فكما قال أجدادنا: عام الطوفان، عام الفيل، عام الهجرة، عام المجاعة، عام الفتح، نقول نحن اليوم: عام الجائحة كورونا، عام اندلاع الحرب الكونية، عام بلفور المشؤوم، عام النكسة، عام الصمود، عام الإبادة الجماعية، عام فضيحة واترغيت، عام الصعود إلى القمر، عام مهازل ويكيليكس، وأعوام الربيع العربي وخريفها. هناك سنون تنطبع أحداثها في أذهاننا، وأخرى تمر بنا دون أن نقيم لها وزناً. قيمة هذه الأعوام تكمن فيما نقدمه فيها من أعمال، وما تأتينا به من مفاجآت.
نقف على أعتاب عام جديد 2026، يحمل في طياته الكثير من التخوفات والتوجسات والآمال والآلام معاً. إنه "الجدّ حتى تفضل فيه العينُ أختها... وحتى يكون فيه اليوم لليوم سيّدا"، كما أومأ المتنبي. لقد ودعنا في العام المنقضي بحسرة وقسوة صفوة من أصدقائنا وأحبائنا. فواحسرتاه على الأعوام النكدة والأيام الراكضة التي تنهب أعمارنا وتثقل كواهلنا. ومع ذلك، نظل نأمل ونعمل، ونحدق في السماء بقدر مشعل على شفاهنا، كأننا نستعطفها أمراً في كنه أنفسنا عند مطلع كل عام جديد، تماماً كـ "آغا ممنون" الخائب الرجاء في إلياذة هوميروس، الذي ما زال يبحث عن هيلين الهاربة إلى طروادة، وما زلنا نتحايل ونتحين معه فرصة التغلب على حصان طروادة الخشبي الشهير في زمننا هذا الكئيب.
*كاتب وباحث ومترجم من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية – الأمريكية للآداب والعلوم بوغوتا كولومبيا. اخبار سورية الوطن 2_وكالات _راي اليوم
منوعات
منوعات
منوعات
منوعات