في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ تحقيقات ديوان المحاسبة، أصدر القضاء اللبناني قراراً يدين وزراء سابقين بتهمة هدر الأموال العامة ويفرض عليهم غرامات مالية كبيرة. فقد أصدرت الغرفة الثانية برئاسة القاضي عبد الرضى ناصر وعضوية القاضيين محمد الحاج وجوزيف كسرواني قراراً يقضي بإدانة خمسة وزراء اتصالات سابقين بتهم هدر الأموال العامة، وتبييض الأموال، وإخفاء منافع غير مشروعة، وذلك في قضية تتعلق بمبنيي قصابيان في الشياح و«تاتش» في الباشورة.
بدأت التحقيقات في هذه القضية في عام 2022، وأصدرت الغرفة تقريرها الأول في 28 آذار 2023، والذي أثبت ارتكاب مخالفات جسيمة وتجاوزات مالية من قبل وزراء الاتصالات المتعاقبين: نقولا الصحناوي، بطرس حرب، جمال الجراح، محمد شقير، طلال الحواط وجوني القرم. وتتعلق هذه المخالفات بصفقات استئجار شركة «تاتش» لمبنى قصابيان في الشياح، ودفع 10 ملايين دولار كبدل إيجار لعدة سنوات دون استغلال المبنى.
كما شملت المخالفات استئجار الشركة لمبنى في الباشورة (البلوكين B وC من العقار 1526) ثم شرائه بالتقسيط مع فوائد مالية وتكاليف عالية، أيضاً دون استغلاله. وقد اختتم التحقيق قبل شهر تقريباً، حيث اتخذ الديوان قراراً نهائياً، مستخدماً صلاحياته الرقابية القضائية على الموظفين، لفرض غرامات مالية كبيرة على الوزراء المتعاقبين، ومطالبة وزير الاتصالات بإصدار سندات تحصيل بحقهم. وتفتح هذه الخطوة، بحسب مصادر مطلعة، الباب أمام استعادة جزء من الأموال المهدورة. ومن المتوقع أن يتبع هذا القرار قرارات مماثلة في ملفات أخرى يحقق فيها الديوان منذ سنوات، والتي تعتبر جاهزة، لكنها تنتظر قراراً جريئاً مماثلاً لإلزام المخالفين بتحمل مسؤولية أفعالهم، بغض النظر عن أي حماية سياسية.
لم يكن هذا التحقيق المفصل وليد اللحظة، بل استغرق وقتاً طويلاً، وتحول من تحقيق إداري إلى تحقيق قضائي، لينتهي بإصدار الغرفة برئاسة القاضي عبد الرضى ناصر قراراً قضائياً في 4 أيار 2023 يتهم الوزراء الستة بهدر المال العام، مع منحهم مهلة شهرين للدفاع عن أنفسهم قبل إصدار القرار النهائي. وفي 9 كانون الأول 2024، صدر القرار النهائي بحق هؤلاء الوزراء، وتم تحويله إلى النيابة العامة في الديوان لإبداء مطالعتها بشأنه، ثم إعادته إلى الغرفة التي درست الملاحظات وأصدرت حكمها، وفقاً للتفاصيل التالية:
– مطالبة وزير الاتصالات بإصدار سند تحصيل بحق الوزير نقولا الصحناوي بمبلغ 8 ملايين دولار، بالإضافة إلى تغريمه ما يعادل راتبه غير الصافي عن 12 شهراً بتاريخ ارتكاب المخالفة، وذلك لإعادة إحياء صفقة استئجار مبنى قصابيان، رغم عدم الحاجة إليه، بعد الموافقة على عقد إيجار طابقين في وسط بيروت (Beirut Digital District» (BDD». كما وافق على إبرام عقد رضائي دون اشتراط إجراء مناقصة أو استدراج عروض مسبق، ودون التأكد من مدى صلاحية المبنى، مما أدى إلى هدر 10 ملايين دولار نتيجة عدم استغلال المبنى.
– تغريم الوزير جمال الجراح ما يعادل راتبه غير الصافي عن 12 شهراً بتاريخ ارتكاب المخالفة، ومطالبة وزير الاتصالات بإصدار سند تحصيل بحقه بقيمة 11.3 مليون دولار، لموافقته على تسديد مبالغ غير مستحقة لتجهيز مبنى الباشورة قيمتها حوالي 22.6 مليون دولار، رغم أن العقد المبرم كان قد نص على أنه عقد «Core and Shell»، مما يجعل نفقات استكمال المبنى على نفقة المالك، أي شركة «سيتي ديفلوبمنت»، وليس على المستأجر، أي شركة «تاتش» ووزارة الاتصالات.
إلا أن الجراح وافق على عقد استكمال وتجهيز المبنى بأسعار أعلى من سعر السوق ومع شركة مملوكة من نفس مجموعة مساهمي «سيتي ديفلوبمنت»، ودون إجراء أي مناقصة. فدُفعت مبالغ لمالكي المبنى ليستكملوا بناءه، مع منحهم أرباحاً «فاحشة» غير مبررة.
– مطالبة وزير الاتصالات بإصدار سند تحصيل بحق الوزير محمد شقير بقيمة 11.3 مليون دولار، وتغريمه ما يعادل راتبه غير الصافي عن 12 شهراً بتاريخ ارتكابه المخالفة، لاتفاقه مع الجهة المالكة «سيتي ديفلوبمنت» على إبطال عقد الإيجار واعتباره كأنه لم يكن، وعلى تنظيم عقد شراء المبنى لقاء ثمن مرتفع جداً، ودون تخمينه. ومن جهة أخرى، لم يطالب باسترداد المبلغ المسدد إلى شركة «سيتي ديفلوبمنت» لاستكمال المبنى البالغ قيمته 22.6 مليون دولار في إطار عقد الإيجار، كما لم يحتسبه من ضمن سعر المبنى.
– مطالبة وزير الاتصالات بإصدار سند تحصيل بحق الوزير جوني القرم بقيمة 4.9 ملايين دولار، وتغريمه ما يعادل راتبه غير الصافي عن 12 شهراً بتاريخ ارتكاب المخالفة، لموافقته على توقيع عقد البيع الممهور على أساس خرائط الإقرار المعدلة على نحو خفض عدد المواقف من 237 إلى 114 موقفاً، أي بنقصان 123 موقفاً، وخفض المساحات المتاحة بعد تقسيم المبيع وضم البلوكين B وC وجعلهما بلوكاً واحداً، مع الإشارة إلى أن الخبير قدر سعر الموقف الواحد بنحو 50 ألف دولار.
– إعفاء الوزير السابق بطرس حرب من العقوبة لأنه أقدم على فسخ عقد الإيجار، مما جنب الخزينة اللبنانية أضراراً مالية أكيدة تقدر بحوالي عشرين مليون دولار كانت ستلحق بها لو لم يتم فسخ العقد من قبله. مع العلم أن القرار الصادر سابقاً نسب إلى حرب عدم اتخاذه أي إجراء بحق الشركة المشغلة، عن قيام رئيس مجلس إدارة شركة «ميك 2»، بالرجوع عن قرار الفسخ، وعدم اتخاذ أي تدبير على أساس العقد الموقع بين الدولة وبينها، لإلزامها بأي ضرر قد ينتج من تصرف مماثل.
حينها، تقرر الطلب إلى وزير الاتصالات القيام بما يلزم من أجل استيفاء تعويض عن الضرر البالغ نحو 2.7 مليون دولار. إلا أن الهيئة قررت إعفاء حرب من العقوبات عملاً بالمادة 62 من قانون تنظيم الديوان، التي تتيح إعفاء الموظف من العقوبة في حال تبين أنه ارتكب «مخالفة من أجل حسن تسيير المصالح العمومية أو بغاية تلافي ضرر أكيد قد يلحق بها».
– تغريم الوزير طلال الحواط بالحد الأقصى للمادة 60 المنصوص عليها في قانون تنظيم الديوان بسبب إهماله في إعطاء الأوامر بوضع إشارة عقد البيع على صحيفة عقار الباشورة، مما أبقى ملكية الشركة للعقار عرضة للضياع. لكن التطور الحاصل تبعاً لانتهاء الحواط من ولايته وتنفيذ عقد البيع، كما نقل ملكية المبنيين إلى شركة «ميك 2»، كل ذلك خفف من الأضرار التي تكبدتها الأخيرة ومعها الخزينة العامة. وهو ما دفع الديوان إلى اتخاذ قرار بوقف تنفيذ العقوبة المفروضة بحق الحواط لعدم ثبوت سوء النية لديه، وذلك سنداً للمادة 62، الفقرة الرابعة.
– مطالبة وزير الاتصالات بالقيام بما يلزم من أجل استيفاء التعويض عن الضرر البالغ 2.750 مليون دولار نتيجة قيام رئيس مجلس إدارة شركة «ميك 2» المعين منها بيتر كالوبولس بالرجوع عن عقد قرار فسخ عقد الإيجار خلافاً للتعليمات المعطاة له، ورغم مطالبة الوزير بطرس حرب له بإعادة تأكيد قرار الفسخ.
إضافة إلى ذلك، طلب الديوان من كل من وزارة المالية – مديرية الخزينة ووزارة الاتصالات إفادته خلال شهر بالإجراءات التي اتخذت من أجل وضع هذا القرار موضع التنفيذ بهدف استعادة وتحصيل حقوق الدولة. وطلب من وزارة الاتصالات العمل مع الدوائر العقارية المختصة على إعادة 123 موقفاً كانت أساساً في تصرف شركة «تاتش»، بموجب عقد إيجار البلوكين C وB من العقار 1526 في الباشورة.