الخميس, 14 أغسطس 2025 08:29 PM

في ذكرى رحيله: علي شريعتي.. من هو المفكر الثوري الذي هزّ إيران بأفكاره؟

في ذكرى رحيله: علي شريعتي.. من هو المفكر الثوري الذي هزّ إيران بأفكاره؟

في الذكرى الخمسين لرحيل المفكر علي شريعتي (1933-1977)، عرضت قناة «الجزيرة» فيلمًا وثائقيًا بعنوان «علي شريعتي: المفكر الثوري الذي غيرت أفكاره إيران». الرسالة الأخيرة التي كتبها علي شريعتي لابنه تضمنت: «أحمد الله لأنني عانيت كل التجارب والنكسات المتعاقبة، ولا يزال عودي صلبًا (…) إن بعض علماء النفس يقولون إن الجيل الواحد لا يحتمل أكثر من هزيمة واحدة، وها أنذا أعد نفسي للهزيمة السادسة أو السابعة، الهزيمة أم النصر… وما الفرق لنا؟»

وأضاف: «إن ذلك مهم جدًا للتجار والرياضيين ومحترفي السياسة. أما بالنسبة إلينا، فالمهم هو أداؤنا لرسالة الله وقيامنا بواجبنا تحت كل الظروف وفي مواجهة كل الاحتمالات، فإذا انتصرنا، نرجو من الله أن يقينا شر الغرور ونزعة الظلم واضطهاد الآخرين. وإذا هزمنا نرجو من الله أن يقينا من الذل والهوان والخضوع».

ولد علي شريعتي في أواخر عام 1933 في إحدى قرى محافظة مشهد الإيرانية لعائلة متدينة معروفة برجال العلم والدين. كان والده محمد تقي شريعتي، إحدى أبرز الشخصيات التي تحاضر في «مركز نشر الحقائق الإسلامية». خلال مراهقته، انكب شريعتي على قراءة كتب التصوف، وعاش هائمًا في سماوات بعيدة، لكن تأثير رئيس الوزراء محمد مصدق كان بمثابة إعصارًا مفاجئًا هزّه من عزلته.

بعد ذلك، اتجه شريعتي إلى السياسة، متسائلًا: ما العمل؟ يقول شريعتي: «دفعتني ظروف معيشتي، وتعليمي وفكري، وبالأخص روحي، إلى أن أشيخ باكرًا في طفولتي».

كان الحدث الأهم في حياة شريعتي هو ظهور محمد مصدق الذي أمّم نفط إيران، ما أدى إلى تنظيم انقلاب عليه بدعم من الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا. ففي صيف عام 1953، عُزل محمد مصدق من رئاسة الوزراء بقرار من الشاه محمد رضا بهلوي.

في ذلك الوقت، كان شريعتي في سن العشرين، يخرج في جنح الظلام مع أحد رفاق النضال ويكتب شعارات داعمة لمصدق، ومناهضة للشاه على الجدران في مدينة مشهد.

في زنزانة «قزل قلعة» الموحشة، حيث ينساب نور خافت من نافذة صغيرة، جلس شاب نحيل يراقب ظلال القضبان على الجدار. كان علي شريعتي في الرابعة والعشرين عندما ذاق مرارة السجن للمرة الأولى عام 1954، بسبب مشاركته في احتجاجات طلابية ضد انقلاب 1953 الذي أطاح برئيس الوزراء محمد مصدق. وفي مذكراته، وصف تلك اللحظات قائلًا: «كنت كالطائر الذي حطم قفصه، فاكتشف فجأة أن العالم أكبر من ساحة الجامعة وأضيق من السجن الانفرادي».

لم تكن تلك مجرد بداية لنضال سياسي، بل كانت لحظة تحول جذري في وعي الشاب الذي نشأ في كنف عائلة دينية مثقفة. والده، الشيخ محمد تقي شريعتي، كان من رواد الإصلاح الديني في مشهد، وغرس في ابنه حب المعرفة والجرأة في طرح الأسئلة المحرمة. في السجن، اكتشف شريعتي أن الأفكار قد تكون أخطر من الرصاص.

في عام 1957، وجد شريعتي نفسه مجددًا خلف القضبان، هذه المرة بتهمة «إهانة الذات الشاهشاهية». وتقول الروايات إن الجنرال تيمور بختيار، رئيس جهاز السافاك، دخل السجن للقيام بجولة تفتيشية، وتوقف أمام شريعتي، ونظر إليه من رأسه إلى قدميه ثم قال بسخرية: «أهذا هو الشاب الخطير الذي يقلق مضاجعنا؟ كنت أظننا قبضنا على أسد، فإذا بنا أمام هريرة!».

لكن السجين الشاب لم ينبس ببنت شفة. كانت تلك السخرية القاسية شرارة أضاءت في ذهنه فكرة ستلازمه طوال حياته: «القوة الحقيقية ليست في عضلات الجلاد، بل في قوة الفكرة التي لا تقهر». بعد سنوات، سيذكر شريعتي هذه الحادثة في إحدى محاضراته قائلًا: «لقد ظنوا أن السجن يمكن أن يكسرنا، لكنهم لم يعرفوا أن الأفكار الحرة تصنع سجونها الخاصة».

في عام 1959، حصل شريعتي على منحة للدراسة في فرنسا. كانت باريس في تلك المدة تغلي بالحراك الفكري. في مقهى «لي دو ماغو» الشهير، جلس شريعتي للمرة الأولى يسمع نقاشًا عن «معذبو الأرض» لفرانز فانون. وكتب لاحقًا: «شعرت كأنني اكتشفت قطعة من الأحجية التي كانت تنقصني».

لكن باريس أظهرت له وجهها الآخر أيضًا. ففي يوم ممطر من أيام 1961، وجد شريعتي نفسه مضطرًا إلى الاختباء في أحد الأزقة بعد مشاركته في تظاهرة لدعم الثورة الجزائرية. وفي رسالة إلى صديق، كتب: «اليوم فهمت معنى التناقض: هم يرفعون شعار الحرية ويسحقونها تحت أحذيتهم!».

في غرفته الصغيرة في الحي اللاتيني، كان شريعتي يعكف على ترجمة مقال للمستشرق لوي ماسينيون عن سلمان الفارسي. وعندما نشر الترجمة، هاجمه رفاقه اليساريون: «بدلًا من أن تترجم لنا ماركس، جئتنا بهذه الخرافات!». وفي الجانب الآخر، انتقده رجال الدين التقليديون لتجرئه على تقديم شخصية إسلامية بطريقة غير مألوفة.

في هذه المدة، بدأت ملامح مشروعه الفكري تتشكل: إسلام ثوري يجمع بين الروحانية والعدالة الاجتماعية، بعيدًا من مادية اليسار وتقليدية رجال الدين.

يطرح شريعتي التحرر من الهيمنة الأجنبية على نطاق أوسع، ليشمل الهيمنة الحضارية قبل أي شيء، فالسياسية والاقتصادية فرضت الهيمنة الحضارية بالعنف، فصارت تروج لثقافتها التي تكتسح ثقافة غيرها، وأصبحت الدول المستعمَرة سوقًا كبيرة لسلع الدول المستعمِرة.

ويؤكد شريعتي أن ظاهرة الاستحمار لم تتوقف منذ ذلك الزمن، بل ظلت شرع المستبد، سواء كان مستعمرًا أو حاكمًا محليًا. ويرى أن علوم الغرب الإنسانية ما هي إلا وسائله الحديثة للتجهيل، إذ يتحول الإنسان إلى بضاعة حينا، وأداة استهلاك أحيانا، وآلة في المجتمع الرأسمالي حينا آخر، وهذا ما يسميه شريعتي بالاستحمار الجديد.

ويستعرض شريعتي ما يراه متناقضًا بين ادعاء أوروبا للتحرر وحماية حقوق الإنسان، وبين ارتكابها المجازر خارج بلادها. ويضرب المثل بفرنسا التي تمثل عاصمتها مركز الفنون والآداب، لكنها لا تتورع عن ارتكاب المجازر على أرض الجزائر.

نادى علي شريعتي بما يسميه الثورة الإسلامية الأصيلة التي تتلخص في شعارين هما: قيادة اجتماعية، وعدالة طبقية. ورأى أن كلمة «أمة»، إذا ما فهمت في إطارها الصحيح، فإنها تزيل التباس الفهم. وأن لفظ الأمة يتضمن الاشتراك في الهدف والقبلة والسير باتجاه هذه القبلة ووجوب الهداية والقيادة المشتركة، وهو لفظ ذو معنى أوسع من القبيلة أو الطائفة.

أما عن مفهوم الإسلام لدى شريعتي، فإنه يعد أيديولوجيا تهدف إلى بناء الإنسان الراقي، ومجتمع متوازن يقدم للمجتمعات الأخرى مثالًا يحتذى به، وهو أيضًا ثورة اجتماعية تهدف إلى بناء مجتمع حر لا طبقي أساسه القسط والعدل، يحفل بالأشخاص الواعين الأحرار المتحملين لمسؤولية كونهم منتمين إلى أمتهم.

إنسان هذا المجتمع عند علي شريعتي جل هدفه هو الاندماج في الجماعة من دون أن يذوب أو ينصهر فيها. وهو إنسان جماعي واجتماعي بالفطرة، وهو مسلم ثوري لا تخمد شعلة ثورته، لكنه مسؤول يعرف كيف يوظف ثورته ويستخدم حقه في الشد على أيدي من يظلمه أو يحاول ظلمه أو سلبه حقه.

رحل علي شريعتي ولم يبلغ الخامسة والأربعين، لكنه ترك إرثًا إشكاليًا في عالم الفكر. كان إنسان عصره وابنًا بارًا لحقبة الستينيات التي شهدت على حركات التحرر الوطني والثورات. وصحيح أنه لم يشهد سقوط الشاه على يد الخميني والثورة الإسلامية بعد سنتين من رحيله، لكن صدى صوته وكلماته كان حاضرًا وبقوة، فهو الذي قال: «لا تستهن بالكلمة، فهي كائن حي وحساس وساحر». وهو الذي قال الامام موسى الصدر عنه: «نكرم علي شريعتي لأننا نعتبره تجسيدًا لأصالة الفكر الثوري».

مشاركة المقال: