الخميس, 27 نوفمبر 2025 03:20 PM

هجرة المسيحيين: نوافذ مُطفأة وقصة مدينة تئنّ

هجرة المسيحيين: نوافذ مُطفأة وقصة مدينة تئنّ

بقلم المهندس باسل قس نصر الله:

تأملت بالأمس تلك العبارة التي قرأتها سابقاً: "لقد زادت أبواب منازل المسيحيين المغلقة بسبب الهجرة"… جملة تختزل وجع سنوات طويلة، وقصة هجرة فريدة من نوعها.

منذ أن بدأت العاصفة تضرب بلادنا، بدأ المسيحيون بالرحيل واحداً تلو الآخر… تتساقط الأسماء من حولي، كما تتساقط أوراق الخريف على الأرصفة الخالية. بيوتهم التي كانت تعجّ بالضحكات، أُغلقت أبوابها… باباً بعد باب… حتى أصبحت أسير في شوارع أعرف حجارتها أكثر مما أعرف وجوه الناس اليوم، فأجدني أقول: "سأزور فلاناً"… ثم أتذكر أنه هاجر… أو "سأشرب القهوة عند قريبي فلان" وأيضاً أتذكر أنه هاجر… فأعود إلى بيتي مثقلاً بوحدة لا تُحتمل.

كل باب مغلق كان كافياً ليجرح قلبي… كل نافذة مُعتِمة كانت تذكرني بأن ضوءاً خامداً خلفها كان يوماً يحمل أرواحاً أعرفها… وأحبها. كم شربت فناجين القهوة من يدِ أم جورج على تلك الشرفة؟ كم درسنا عند "طوني" في ليالي الشتاء الباردة؟ وكم ضحكنا في تلك الأمسيات حين كانت زوجة صديقي تقدم طبق التبولة، وكأنها تقدم لنا فرحاً نعرف أنه لن يدوم؟

حتى صبايانا وابتساماتهنّ، فكنا نمر بهن ونحلم، ونرسم مستقبلاً كنا نظنه ينتظرنا جميعاً. كبرنا… تزوجنا… ربينا أولادنا… ولكن المستقبل الذي رسمناه معاً تخلى عن نصفنا وأكثر بكثير.

واليوم، أسير في الشوارع ذاتها، لكنني أسير وحيداً… وحزيناً… أمام أبوابكم التي أعرف أنها لن تُفتح بعد الآن. حتى أوراق الوفيات على الجدران تغيرت، فلم تعد تخبرنا فقط عن اسم الراحل، بل عن أسماء أولاده "المقيمين في كندا"، أو "الموجودين في السويد"، و"المهاجرين إلى ألمانيا"، وكأن موتنا أيضاً صار يُدفَن خارج البلاد.

لكننا ما زلنا نقيم كرنفالات بعناوين براقة عن التشبث بأرض الأجداد والآباء… ونبني فزاعات في مناطق أصبحت فارغة حتى من الزرع. فعذراً فيروز… لأنكِ مهما غنيت: "سنرجع يوماً"… فهم لن يرجعوا.

سيعودون فقط ليبيعوا بيوتهم وأملاكهم – وهم يفعلون – ذكرياتهم… الأرصفة التي كبروا عليها… سيعودون ليقفوا دقائق أمام أوابدنا وأسواقنا ومقاهينا، ليشبعوا حنينهم المفاجئ، ثم يعودوا. سيأكلون خلال زيارتهم القصيرة إلينا، ما كنا نأكله معاً، ويلتقطون صوراً تذكارية، ثم… يعودون.

وأنا أعرف – مهما حاولنا أن نكذب بندواتنا – أنهم لن يعودوا. وأن كنائسنا لن تراهم ثانيةً، وأن أنديتنا ومقاهينا وشوارعنا لن تمتلئ بأصواتهم، وأن مقاعدهم التي ما زالت فارغة… ستبقى فارغة.

نحن الذين بقينا، نحمل على أكتافنا كل زمن جميل مضى… لكننا لا نملك شجاعة الكذب لنقول إن كل شيء سيعود كما كان. لأنكم أنتم، الذين غادرتم، كنتم جزءاً أساسياً مما كان… وحين خرجتم… خرج جزء منا معكم.

نعم… أبواب المسيحيين المغلقة تزداد يوماً بعد يوم… وكل باب مغلق ليس مجرد خشب وحديد… إنه فصل جديد من حكاية مدينة تئن وحيدة.

اللهم اشهد… أني بلّغت.

(أخبار سوريا الوطن-2)

مشاركة المقال: