عنب بلدي – محمد ديب – شهدت الأشهر الأخيرة نشاطًا ملحوظًا في الدبلوماسية السورية، تجلى في سلسلة زيارات إلى عواصم عالمية ذات مصالح وتحالفات متباينة، بدءًا من موسكو مرورًا بواشنطن ولندن وصولًا إلى بكين. وعلى الرغم من تباين الدوافع والنتائج لكل محطة، إلا أن هذا المسار يعكس بوضوح سعي دمشق لإعادة تشكيل موقعها الخارجي بعد سنوات من العزلة والضغط الدولي، واستغلال اللحظة السياسية الراهنة لبناء شبكة علاقات أوسع.
عودة البوابة الروسية
قام الرئيس السوري في المرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، بزيارة إلى العاصمة الروسية موسكو في 15 تشرين الأول الماضي، في خطوة حملت دلالات رمزية وسياسية واضحة. وتعد هذه الزيارة الأولى للشرع إلى روسيا بعد توليه السلطة، وهي رسالة تؤكد أن العلاقة مع روسيا لا تزال تحظى باهتمام السياسة الخارجية السورية، خاصة في المجالين الأمني والعسكري، حيث حافظت موسكو على دور مباشر في تشكيل بنية المؤسسة العسكرية وإدارة التوازنات في الجنوب السوري. وبينما لم تتجاوز الزيارة التأكيد على الشراكة والعلاقات المتبادلة، إلا أن توقيتها يشير إلى رغبة دمشق في تثبيت تفاهماتها القديمة قبل الانطلاق نحو مساحات جديدة مع الغرب. ويعكس هذا التمسك بالمحور الروسي قناعة سوريا بأنه لا يوجد بديل واقعي للدور العسكري والأمني الذي تؤديه موسكو في المدى المنظور، سواء فيما يتعلق بإعادة بناء المؤسسة العسكرية أو بإدارة الملف الحساس المتعلق بتنسيق خطوط الاشتباك في الجنوب.
واشنطن.. التحول الكبير
شهد يوم 10 تشرين الثاني الحالي تحولًا بارزًا، حيث زار الشرع واشنطن وعقد لقاء مع الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، ركز على ملفات مكافحة الإرهاب والأمن الإقليمي. وأعقب اللقاء الإعلان عن انضمام سوريا رسميًا إلى التحالف الدولي ضد تنظيم “الدولة الإسلامية”، وهي خطوة وصفتها واشنطن بأنها “محورية” نحو إغلاق ملف المقاتلين الأجانب. وبالنسبة لدمشق، يمثل هذا الانضمام دخولًا مباشرًا إلى منظومة أمنية دولية كانت غائبة عنها لسنوات، بينما تنظر الولايات المتحدة إلى التعاون السوري من زاوية مكافحة الإرهاب وفرض الاستقرار الإقليمي، مع بقاء المقاربة الأمريكية تجاه سوريا خاضعة بشكل واضح لاعتبارات إسرائيلية.
بعد أيام قليلة من زيارة واشنطن، أعادت سوريا فتح سفارتها في لندن، بالتزامن مع زيارة وزير الخارجية أسعد الشيباني إلى المملكة المتحدة بدعوة رسمية. وسبقت هذه الخطوة إشارة بريطانية مهمة تمثلت في رفع العقوبات عن الرئيس الشرع ووزير الداخلية أنس خطاب. وتأتي هذه التطورات ضمن مسار غربي يتمثل في الانفتاح على الحكومة السورية الجديدة، ولكن ضمن شروط متغيرة وقابلة للتراجع. فمن الممكن أن يكون “الرضا الغربي” تجاه دمشق غير ثابت، وقد يتأثر بعوامل تتعلق بإسرائيل ومكافحة الإرهاب.
بكين.. تعاون أمني واقتصادي
في 17 تشرين الثاني الحالي، اختتمت التحركات بزيارة الشيباني إلى الصين، حيث أصدر الجانبان بيانًا مشتركًا أكد تطوير العلاقات الثنائية والتنسيق الأمني ومكافحة الإرهاب، إضافة إلى التعاون التنموي. ورغم أن بكين تقدم نفسها كشريك اقتصادي في المقام الأول، فإن وجود ملف المقاتلين الإيغور، الذين شارك بعضهم في القتال خلال سنوات الحرب، يبقى حاضرًا في خلفية أي نقاش ثنائي. والصين، وفق محللين، لا تطلب تسليم مقاتلين، لكنها حريصة على ضمان عدم تحول سوريا إلى منصة لنشاط مجموعات قد تراها تهديدًا، فيما ترى دمشق في بكين بوابة للحصول على دعم سياسي واقتصادي داخل المؤسسات الدولية.
انفتاح محسوب
يرى الباحث السياسي محمد الجابي أن ما يجري اليوم لا يمثل انقلابًا سياسيًا ولا انسلاخًا عن المحور الشرقي، بل هو تعبير عن سياسة بقاء براغماتية تهدف إلى توسيع هامش الخيارات بعد سنوات طويلة من العزلة. وقال الجابي، في حديث إلى عنب بلدي، إن دمشق تعمل على فتح مساحات اقتصادية وأمنية تساعدها على إعادة بناء الدولة، عبر شبكة علاقات متعددة الاتجاهات تحقق هدفًا داخليًا يتعلق بإعادة الإعمار وترميم المؤسسة الأمنية، وآخر خارجي يهدف إلى استعادة القدرة على الحوار مع مختلف القوى ومنع هيمنة طرف واحد على القرار السوري. وأضاف أن التنسيق مع الولايات المتحدة يجري اليوم عبر “بوابة التخلص من الشر”، في إشارة إلى محاولة تخفيف العقوبات وفتح ممرات اقتصادية، دون التعويل على واشنطن كضامن مستقر أو شريك يمكن الركون إليه.
وبحسب الجابي، فإن المرحلة الراهنة تتطلب من السياسة الخارجية السورية تبني ما يسميه “الحياد الذكي”، أي تجنب الاصطفاف الحاد مع أي محور، والعمل على إعادة تموضع مدروس على الخارطة الدولية. هذا الحياد، كما يرى، ضرورة عملية لمرحلة انتقالية حساسة. تعتمد سوريا اليوم على موازنة قوى مدروسة، لا رغبة في الانضمام إلى محور جديد، بل للسعي إلى شروط تفاوض أفضل، وأكد الجابي أن روسيا تبقى “الفاعل الأنسب” لدعم سوريا في المجال العسكري والأمني، سواء عبر قدرتها على التأثير الميداني أو عبر إدارة العلاقة المعقدة مع إسرائيل في الجنوب. ويرى أن عدم وجود بديل واقعي للدور الروسي يجعل العلاقة بين البلدين ركنًا ثابتًا، وهو ما يعكسه استمرار الزيارات العسكرية المتبادلة. أما بالنسبة للصين، فيعتبر الجابي أن حضورها اقتصادي وسياسي أكثر منه أمنيًا، وأن ملف الإيغور يمثل أحد الهواجس الأساسية لديها، لكنه يشدد على أن العلاقة مع بكين تبقى أقرب إلى التعاون الاقتصادي منها إلى التحالف العسكري، مع حرص دمشق على عدم خلق احتكاك مع الغرب والقوى الإقليمية الأخرى.
وحول قدرة سوريا اليوم على أن تكون “لاعبًا متعدد الأقطاب”، قال الجابي، إن ذلك صحيح نظريًا، لكنه محدود عمليًا بسبب ضعف الموارد وتراجع القدرات، ما يجعل هذا التعدد “انفتاحًا محسوبًا” وليس قدرة كاملة على صناعة التوازنات. وفي الجنوب السوري، يرى الجابي أن الحكومة السورية تتجه إلى ترتيبات تستند إلى اتفاق فك الاشتباك لعام 1973 باعتباره المرجعية الأوضح لضمان الحد الأدنى من الاستقرار، في ظل عجز سوريا عن الدخول في مواجهة مفتوحة، مؤكدًا أن دمشق تراهن على شبكة علاقات دولية تمنع إسرائيل من استغلال هشاشة المرحلة الانتقالية.
ديناميكية جديدة
أما الصحفي والكاتب السياسي رائد محمود فيرى أن النظر إلى تحركات سوريا باعتبارها محاولة “موازنة بين القوى الكبرى”، هو تبسيط غير دقيق، فبرأيه، ما يحدث منذ كانون الأول 2024، هو ديناميكية سياسية جديدة داخل سوريا نفسها، في لحظة تحاول فيها السلطة الحالية استكشاف نفسها في الحكم، بينما تحاول القوى الدولية استكشافها كذلك. وقال محمود، خلال حديث إلى عنب بلدي، إن الزيارات إلى الولايات المتحدة والعواصم الغربية منحت القيادة الجديدة قدرًا من الشرعية السياسية، وإن أهميتها لا تتعلق فقط برفع العقوبات المحتمل، بل بما حصلت عليه تلك الدول من مقابل، كما أن الانضمام إلى التحالف الدولي ضد تنظيم داعش خبر مهم جدًا، وأن الحديث عن “السيادة” في سوريا ينبغي إعادة النظر فيه ضمن هذه الديناميكية الجديدة.
ومع ذلك، يحذر محمود من الانخداع بفكرة انضمام سوريا إلى “الحلف الغربي”، إذ يرى أن الأنظمة الغربية تحتاج وقتًا أطول لاستيعاب شكل سوريا الجديدة، معتبرًا أن العلاقة مع الولايات المتحدة “متعبة وصعبة” لأنها تمر عبر مرحلتين هما المصالح الإسرائيلية ومكافحة الإرهاب، ما يعني أن “الرضى الأمريكي” قابل للتغير السريع. كما شدد على أهمية استمرار الدعم العربي والتركي، معتبرًا أنه عنصر حاسم في المرحلة المقبلة، أكثر من الانفتاح الغربي وحده.
وفيما يتعلق بروسيا، يعتقد محمود أن الزيارات إليها “بالغة الأهمية” لبناء تفاهمات حول القواعد العسكرية والعلاقات التجارية، لكنه يرى أن نفوذ موسكو الحقيقي على الأرض تراجع، وأن هذا الواقع قد يقود إلى إعادة تفاوض حول طبيعة العلاقة مستقبلًا، خاصة إذا لم يستمر الغرب في غض الطرف عن الدور الروسي. وحول الصين، يصف محمود الزيارة بأنها “محاولة فهم واستكشاف”، مؤكدًا أن بكين لا تطلب تسليم مقاتلي الإيغور، لكنها تريد ضمان عدم تحول سوريا إلى منصة لأي تهديد، وفي هذا السياق فإن دمشق تطمح من بكين وروسيا إلى التعامل معها كدولة “عادية” داخل النظام الدولي، لا كملف استثنائي.
وفي ظل المعطيات، تكشف التحركات السورية الأخيرة عن سياسة خارجية جديدة تعتمد على الانفتاح المدروس على مختلف القوى الدولية، دون الخروج من المظلة التقليدية للعلاقة مع موسكو. وبينما تحاول دمشق الاستفادة من اللحظة السياسية لإعادة التموضع، تبقى قدرتها على صناعة التوازنات رهنًا بمواردها المحدودة وبمدى تجاوب القوى الدولية مع مشروع الانتقال الجاري داخل البلاد.