علي البكيع – دير الزور
بعد يوم عمل شاق، يجد "الآغا" راحته المسائية في مقهاه المفضل، حيث يمضي ما يقارب الساعتين إلى ثلاث ساعات يوميًا، منخرطًا في الأحاديث والترفيه مع أصدقائه ورفاقه في مدينة دير الزور. في قلب المدينة السورية الشرقية، التي أرهقتها سنوات الحرب، لا تزال المقاهي الشعبية تمثل متنفسًا لسكان المدينة، فهي ليست مجرد أماكن للاسترخاء وقضاء الوقت، بل فضاءات تحتضن الذكريات وتجمع الأجيال، حيث تلتقي الحكايات ويتجدد الأمل، على الرغم من الدمار الذي لحق بأرجاء المدينة.
"مجتمع صغير"
يروي معن الأغا (57 عامًا)، من سكان حي الشيخ ياسين في دير الزور، أن المقاهي الشعبية تعتبر تقليدًا راسخًا في حياة أهالي دير الزور، يتناقلونه جيلًا بعد جيل، فهي بالنسبة له أكثر من مجرد مكان للراحة، بل جزء لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي. ويضيف أن ما يميز هذه المقاهي هو طابعها العائلي والشعور بالانتماء الذي تمنحه لروادها، فكل من يزورها يجد نفسه ضمن مجتمع صغير يشاركه الأفراح والأحزان، ويصبح جزءًا من تراث شفوي حي يمتد من جيل إلى جيل دون أن ينكسر تحت وطأة الزمن، على حد تعبيره.
ويؤكد الأغا على العلاقة الوثيقة التي تنشأ بين الرواد والمكان، مشيرًا إلى أن الشعور بالراحة في المقهى هو ما يدفعه إلى الاستمرار في ارتياده، فالصاحب والخدمة وطعم الشاي، كلها عناصر تجعل من هذا المكان امتدادًا لمنزله، كما يصف. ويقول إنه يقضي ليلته بعد عمل طويل في المقاهي الشعبية بالأحاديث ولعب الورق، موضحًا أن المقاهي في دير الزور ليست فقط للترفيه، بل هي مركز يومي يربط الناس ويمنحهم لحظات استقرار في واقع مضطرب. كما أصبحت المقاهي الشعبية ملاذًا أساسيًا للناس لتلبية احتياجات حياتية مثل شحن الهواتف أو الحصول على الإنترنت في ظل الانقطاع المتكرر للكهرباء.
تكافل مجتمعي
يقول علي البرجس (63 عامًا)، لنورث برس، وهو من رواد المقاهي منذ أكثر من 25 عامًا، إنها أصبحت جزءًا لا يتجزأ من حياته اليومية، ووسيلة للتغلب على الصعوبات، خاصة في ظل ضعف الخدمات العامة. ويضيف أن المقاهي باتت، في ظل الأزمات، نموذجًا للتكافل المجتمعي، وساحة تجمع لا تعرف فوارق اجتماعية أو ضغائن، بل تقرب بين الناس في لحظات صعبة.
ويشير إلى البعد الإنساني القوي داخل هذه المقاهي، حيث تمتد علاقات الصداقة لتصبح شبكة دعم حقيقية، يتفقد فيها الناس بعضهم البعض ويقدمون المساعدة عند الحاجة. فيما يتحدث علي عبد الرزاق أبو رغيد (61 عامًا)، لنورث برس، عن المقهى كمكان للوفاء قبل أن يكون للمتعة، مبينًا أن غياب أحد الرواد لا يمر مرور الكرام، بل يثير القلق والسؤال. هذه العلاقة الوثيقة بين الزبائن تحاكي شكل العائلة الممتدة، حيث يُسأل عن الغائب ويُذكر الراحل، وتُستعاد الذكريات في جلسات اللعب والضحك الجماعي، بحسب "أبو رغيد".
الحنين الذي يحمله أبو رغيد يعكس الدور الاجتماعي والوجداني العميق لهذه المقاهي، والتي تحولت بمرور الزمن إلى أرشيف حي للذاكرة الشخصية والجمعية على حد سواء. ويقول: "ليس غريبًا أن يربط الكثير من سكان دير الزور لحظاتهم الجميلة بمقعد خشبي أو طاولة قديمة في أحد المقاهي التي أصبحت شاهدًا على تفاصيل حياتهم اليومية".
ارتباط مكاني
يرى حمزة الشلاف، صاحب مقهى "ميلانو" الشعبي في دير الزور، أن المقاهي الشعبية ليست مجرد أماكن عابرة، بل مؤسسات مجتمعية ذات وظيفة اجتماعية راسخة. ويقول "الشلاف"، لنورث برس، إن الزبائن، خاصة كبار السن، يرتبطون بالمكان بعلاقة يومية، لدرجة أن غياب أحدهم يعد حدثًا يستدعي السؤال والاطمئنان.
ويتحدث الشلاف عن طاولات محجوزة وروتين يومي ينسجه الناس مع أماكنهم المفضلة داخل المقهى، ما يحول العلاقة إلى شيء يشبه العائلة. لكن التحديات المعيشية لا تغيب عن هذا المشهد، فارتفاع الإيجارات وتكاليف المواد بات عبئًا حقيقيًا على أصحاب المقاهي، بحسب "الشلاف". ويشير إلى أنه رغم ذلك، لا يزال يقدم خدماته بمحبة، معبرًا عن أمله في دعم حكومي ينقذ هذه الأماكن من الضغوط الاقتصادية التي تهدد استمراريتها، فالمقاهي بالنسبة له ليست مشروعًا تجاريًا فحسب، بل مسؤولية تجاه مجتمع بأكمله.
ورغم كل ما مرت به دير الزور من أزمات، تبقى المقاهي الشعبية أحد الرموز القليلة التي لم تفقد بريقها، وليست فقط ملتقى للرفاق، بل حارسة لذاكرة المدينة، وأحد أعمدة صمودها الاجتماعي والثقافي. وفي زمن التشتت والقلق، تواصل هذه المقاهي أداء دورها كمساحات للدفء الإنساني والتكافل، تحفظ فيها الحكايات، وتبنى فيها العلاقات، وتمارس فيها طقوس الحياة اليومية كما لو أن الحرب لم تقترب منها.
تحرير: خلف معو