عنب بلدي – موفق الخوجة لا تزال قضية حيي الأشرفية والشيخ مقصود، ذوي الأغلبية الكردية شمالي حلب، تراوح مكانها بسبب عدم تنفيذ الاتفاقات المبرمة. تسيطر "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) على الحيين، على الرغم من وجود اتفاق يقضي بانسحابها إلى شمال شرقي سوريا.
عادت القضية إلى الواجهة بعد التوترات العسكرية والأمنية التي شهدتها المدينة في 22 أيلول الحالي، عندما أرسلت الحكومة السورية أرتالًا، بعضها مدرع، إلى محيط الحيين لتعزيز مواقعها مقابل "قسد".
أفاد مصدر عسكري لـ"عنب بلدي" بأن التوترات بدأت بعد استهداف "قسد" سيارة "بيك أب" تابعة للوزارة، ما أسفر عن مقتل عنصر وإصابة أربعة آخرين وقعوا في الأسر، الأمر الذي أدى إلى استنفار أمني في المدينة. وأوضح المصدر، الذي طلب عدم الكشف عن هويته، أن وزارة الدفاع تتمركز في نقاط ثابتة حول الحيين، مقابل نقاط تمركز "قسد" داخلهما، وأن الحادث وقع أثناء عملية تبديل العناصر.
لم تعلق الحكومة على الحادث، لكن مصدرًا في محافظة حلب، طلب عدم ذكر اسمه، أوضح أن المشكلة حُلت في اليوم نفسه، مشيرًا إلى أن "قسد" أطلقت سراح الأسرى من وزارة الدفاع.
من جهتها، ذكرت "قسد" أنها تصدت لهجوم شنته ما أسمتها "الفصائل المنفلتة" التابعة لحكومة دمشق على إحدى نقاطها الأمنية في محيط الحيين، ما أسفر عن إصابة ثلاثة من المهاجمين وإسقاط طائرة مسيرة (درون).
اتهامات متبادلة بالاستفزاز
أشار المصدر العسكري المطلع على المفاوضات بين الطرفين إلى أن "قسد" تستفز القوات الحكومية باستمرار، وأن مقاتليها لديهم تعليمات بخرق اتفاق 10 آذار. ومع ذلك، يعقد ممثلو القوات السياسيون لقاءات مستمرة داخل حلب مع جهات حكومية ومجتمعية ومنظمات المجتمع المدني، دون أي عرقلة من الحكومة.
في المقابل، تعتقل "قسد" كل من يعمل مع الحكومة أو كان ضمن فصائل المعارضة سابقًا، وتخفيه وتنكر معرفة مكانه، وفقًا لمصدر في وزارة الدفاع، الذي اعتبر ذلك "تزويرًا للحقائق".
ما الدوافع؟
يرى الصحفي والسياسي عقيل حسين أن "قسد" تستفز الحكومة والمؤسسات الأمنية والعسكرية في مناطق التماس في حيي الشيخ مقصود والأشرفية، إضافة إلى شرقي حلب ومنبج، التي تشهد توترات شبه يومية. وأضاف أن قادة عسكريين وعناصر ضمن "قسد" يتعمدون استهداف مناطق مدنية أو عسكرية في الجهة المقابلة.
يعتقد حسين أن فريقًا داخل "قسد" يقع تحت هيمنة حزب "العمال الكردستاني" (PKK) والجناح المتطرف منه، وأن مصلحته تكمن في عدم تطبيق اتفاق 10 آذار واتفاق مطلع نيسان. وذكر أن هذه الأطراف لا ترغب باستقرار الأمور، مشيرًا إلى العضوين في حزب "الاتحاد الديمقراطي" (PYD)، ألدار خليل وصالح مسلم. واعتبر أن القائد السابق لحزب "العمال الكردستاني"، عبد الله أوجلان (المعتقل في تركيا)، لم يبدِ الموقف التصالحي نفسه مع سوريا، قائلًا إن "روج آفا" "خط أحمر".
أشار الصحفي إلى أن أوجلان ذكر "الخط الأحمر" في لقائه مع أعضاء حزب "الشعوب الديمقراطي" التركي/الكردي، ونقلت عنه النائبة في الحزب، بيرفين بولدان، وفق موقع "بير غون" التركي. وبحسب بولدان، فإن اعتبار أوجلان أن سوريا و"روج آفا" (غرب كردستان) خطه الأحمر وقضية منفصلة، يشير إلى إعلان تخلي حزب "PKK" عن السلاح والانخراط في العملية السياسية في تركيا.
زيارة أمريكا
ربط مدير قسم تحليل السياسات في مركز "حرمون للدراسات المعاصرة"، الدكتور سمير العبد الله، الأحداث الأخيرة بزيارة الرئيس السوري في المرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، إلى أمريكا. ويرى أن الهدف الأساسي من ذلك قد يكون تعكير أجواء الزيارة والتأثير على نتائجها السياسية والإعلامية والاقتصادية، معتبرًا أن الزيارة تحمل بعدًا استراتيجيًا يتعلق بعلاقة دمشق مع واشنطن.
يبدو أن "قسد" تحاول في هذه المرحلة استفزاز الحكومة السورية بالتزامن مع زيارة الرئيس أحمد الشرع إلى الولايات المتحدة، والهدف الأساسي من هذه التحركات قد يكون تعكير أجواء الزيارة والتأثير على نتائجها السياسية والإعلامية والاقتصادية، خاصة أنها تحمل بعدًا استراتيجيًا يتعلق بعلاقة دمشق الجديدة بواشنطن.
د. سمير العبد الله
مدير قسم تحليل السياسات في مركز "حرمون للدراسات المعاصرة"
خلال الأسبوع الماضي، زار وفد سوري، برئاسة الشرع، الولايات المتحدة الأمريكية، وأجرى عدة لقاءات وحضر عدة فعاليات، أبرزها الخطاب الذي وصف بـ"التاريخي" للرئيس السوري في الأمم المتحدة، بعد نحو 60 عامًا.
قال الصحفي والسياسي عقيل حسين إن النشاط الدبلوماسي السوري في واشنطن لا يصب في مصلحة "قسد"، التي تعتمد بالدرجة الأولى على الدعم الأمريكي. ويعتقد الفريق المتشدد داخل "قسد" بأن أي تقارب بين دمشق وواشنطن يعني سحب الغطاء تدريجيًا عنها، كما ليس من مصلحتها إظهار الحكومة السورية بموقف النجاح والتقدم، وفقًا لما يراه حسين.
ويرى أن هذا الفريق داخل "قسد" يحاول جر الجيش السوري إلى معركة تفشل المساعي الدبلوماسية السورية.
ما موقف واشنطن؟
يرى الباحث سمير العبد الله أن الموقف الأمريكي، على الرغم من أنه يبدو داعمًا لإدارة الشرع، لم يصل إلى حد الضغط الجدي على "قسد" لتنفيذ الاتفاقات. ويطرح هذا التردد تساؤلات حول أولويات واشنطن الحقيقية، خاصة أنها تركز أكثر على ملفات تنظيم "الدولة الإسلامية" وأمن إسرائيل، أكثر من تركيزها على إعادة ترتيب العلاقة بين دمشق و"قسد".
ويرى أن هذا ما يفسر بعض التغييرات الأخيرة في "المنصة الإقليمية الخاصة بسوريا"، الذي اعتبره محاولة أمريكية لإعادة هندسة توازنات الملف. وذكرت وكالة "رويترز" في 18 أيلول الحالي أن الولايات المتحدة الأمريكية أعفت مؤخرًا عددًا من أرفع دبلوماسييها العاملين في الملف السوري، ضمن "المنصة الإقليمية الخاصة بسوريا" (SRP).
أشار مصدر دبلوماسي غربي لوكالة "رويترز" إلى أن الخطوة ارتبطت جزئيًا بـ"تباين في وجهات النظر" بين بعض الموظفين وبراك حول ملف العلاقة بين "قسد" والرئيس السوري، الشرع. بالمقابل، أوضح مصدر دبلوماسي أمريكي لـ"رويترز" أن "عددًا محدودًا" من الموظفين أُبلغوا بانتهاء مهامهم ضمن ما وصفه بعملية "إعادة تنظيم للفريق"، مؤكدًا أن القرار "لا يعكس خلافات سياسية" بين الموظفين والمبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا، توم براك، أو البيت الأبيض، ولن يؤثر على السياسة الأمريكية تجاه سوريا.
اتفاقيات معلقة
يرى مدير قسم تحليل السياسات في مركز "حرمون للدراسات المعاصرة"، سمير العبد الله، أن مسار العلاقة بين الحكومة السورية و"قسد" يبقى مرهونًا بموقف أمريكي واضح. وإذا اتخذت واشنطن قرارًا حاسمًا بوقف الرهان على استمرار سيطرة "قسد" في الجزيرة السورية وريف حلب، فإن هذا سيقطع الطريق أمام محاولاتها للمماطلة أو استنساخ سيناريو السويداء.
بالمقابل، فإن استمرار الغموض سيمنح "قسد" هامشًا أكبر للمناورة والمماطلة، ويؤخر أي تقدم فعلي في مسار التسوية، وفقًا للباحث السياسي في "حرمون".
قال المصدر العسكري في وزارة الدفاع لـ"عنب بلدي" إن "قسد" تلعب على مسألة الوقت ولا تلتزم بالمعاهدات والمواثيق، طمعًا بمكاسب سياسية ووعود من أطراف دولية. كما لم تنفذ "قسد" الاتفاق بينها وبين الحكومة المتعلق بانسحابها من حيي الأشرفية والشيخ مقصود، وبقيت نقاط تمركزها العسكرية ضمن الحيين، كما لم تنفذ الاتفاق بردم الخنادق وهدم السواتر الترابية وسحب السلاح الثقيل والإبقاء على قوى الأمن (أسايش).
لذلك، بقيت الفرق العسكرية التابعة لوزارة الدفاع بمحيط الحيين تحسبًا لأي طارئ، وفقًا للضابط في وزارة الدفاع.
أكد الضابط في وزارة الدفاع أن المكونات الموجودة ضمن الحيين هي مكونات سورية تجري عليها الأحكام كما كل السوريين من الطوائف والملل السورية الأخرى، إلا أن "قسد" تطمح لمكاسب سياسية "كبرى"، وفق تعبيره. وخلال ما رصده العسكري في جولات المفاوضات، لا يملك أعضاء "قسد" المفاوضون أي تفويض، إذ يكتفون بطرح الرؤية دون نقاش، بينما يمتلك الوفد الحكومي السوري تفويضًا بالمفاوضات ضمن سقف اتفاق 10 آذار.
ما اتفاق نيسان
إضافة إلى اتفاق 10 آذار الماضي بين الرئيس السوري أحمد الشرع وقائد "قسد" مظلوم عبدي، والقاضي بدمج الأخيرة بمؤسسات الدولة المدنية والعسكرية، جرى اتفاق آخر في حلب مطلع نيسان الماضي.
نص اتفاق نيسان على خروج قوات "قسد" العسكرية والتشكيلات التابعة لها والإبقاء على "قوى الأمن الداخلي" (أسايش) تمهيدًا لضم الأخيرة لوزارة الداخلية ضمن الحكومة السورية. تضمن الاتفاق الذي حمل 14 بندًا تبييض السجون بين الجانبين وفتح الطرقات وإزالة السواتر الترابية والعمل على إعادة دمج المؤسسات المدنية في الحيين إلى مؤسسات المحافظة.
نُفذ من الاتفاق خروج رتلين عسكريين يضمان أكثر من 900 عنصر من "قسد" خلال نيسان الماضي، في حين لم تخرج أرتال بعدها، إلا أن الجانبين تبادلا موقوفين وسجناء على ثلاث دفعات. مثّل الاتفاق في نيسان الماضي "بالون اختبار" للاتفاق العام بين الشرع وعبدي، وكان من المتوقع أن ينفذ خلال شهر واحد، بحسب تصريح سابق لمدير مديرية الإعلام في حلب، عبد الكريم ليلة، لـ"عنب بلدي".
الحكومة "تضبط النفس"
قال الصحفي عقيل حسين إنه إذا تُركت "قسد" على راحتها بما يتعلق باتفاق نيسان، فإنها لن تنفذه، ويرى أنه يجب أن تضغط الدول الراعية لاتفاق آذار، ومن جملته الاتفاق المتعلق بحلب. بالمقابل، يرى أن عدم تنفيذ الاتفاقيات يدفع باتجاه توتر جديد يتمثل باشتباكات أو حرب جديدة.
وقال إن الحكومة السورية لا تريد أي حرب جديدة وتمارس أقصى درجات ضبط النفس وتؤكد أن الخيار الاستراتيجي هو السلام دون أي دماء. ويوافقه الباحث سمير العبد الله، إذ لا يرى مؤشرات حقيقية على أن "قسد" بصدد الالتزام بالاتفاقيات أو الشروع بتنفيذها، مستغلة حرص الحكومة على السلم.
وقال إن "قسد" تدرك هذا الهامش وتحاول استغلاله كورقة ضغط، مع إدراكها أن أي ضغوط أمريكية محتملة قد تدفعها في نهاية المطاف لتقديم تنازلات.
ربما تراهن قسد على تكرار سيناريو مشابه لما جرى في السويداء، عبر خلق أزمات ميدانية متتالية أملًا في الوصول إلى خارطة طريق تمنحها نوعًا من الإدارة الذاتية في مناطق سيطرتها. وهذا السيناريو ليس بعيدًا عن طموحاتها التي عبّرت عنها مرارًا خلال السنوات الماضية.
أكد الرئيس السوري، الشرع، في أكثر من مناسبة أنه يسعى إلى المسار السلمي والابتعاد عن الخيار العسكري، بالرغم من تلويح كلا الجانبين باستعدادهما لخوض المعركة.
تلويح بالعمل العسكري.. اشتباكات محدودة
خلال الأشهر الماضية، جرت مناوشات محدودة بين الجانبين، خاصة في شرقي حلب ودير الزور، ويتبادل الطرفان الاتهامات حول من بدأ الاشتباك. أحدث التوترات التي جرت، حتى لحظة تحرير التقرير، كانت في منطقة دير حافر بريف حلب الشرقي، إذ استهدف قناص من "قسد" أحد عناصر الجيش السوري، ما أدى إلى مقتله، في 24 أيلول الماضي.
وسبق هذا الاستهداف تبادل لإطلاق القذائف بين الجانبين، أدى إلى مقتل عنصر في صفوف "قسد" وإصابة أربعة أطفال آخرين، وفقًا للأخيرة. وفي 20 أيلول الحالي، تبادلت الحكومة السورية و"قسد" القصف في ريف حلب الشرقي، ما خلّف ضحايا في صفوف المدنيين، وسط اتهامات متبادلة حول من بدأ الاشتباكات.
اتهمت "قسد" القوات الحكومية بقتل ثمانية أشخاص، بينهم ثلاثة أطفال، جراء قصف الحكومة قرية أم تينا بريف دير حافر. بالمقابل، نفت إدارة الإعلام والاتصال في وزارة الدفاع حينها قصفها قرية أم تينا، معتبرة أن الجهة التي قصفت القرية هي "قسد" نفسها.
من جانبها، اعتبرت "قسد" أن التصريحات الصادرة عن وزارة الدفاع لا تعدو كونها "محاولة مكشوفة للهروب من مسؤولية الجريمة، ولا تصمد أمام أي منطق عسكري أو سياسي، ولن تغير من الوقائع الميدانية المثبتة"، وفق تعبيرها.
هناك تباطؤ في تنفيذ اتفاق 10 من آذار، دائمًا عقلية التنظيمات والفصائل تكون غير مسيطرة على كل الأفراد الداخلين فيها.
ولديهم (قسد) أطماع في عناوين اللامركزية، ولكن المقصود فيها بشكل فعلي هو التقسيم، وهذا ما سيعرض المنطقة لمخاطر كبيرة، وربما تتعرض المنطقة لحرب واسعة، لأن أي عنوان من عناوين إبقاء كيان بشكل تنظيم "قسد" في شمال شرقي سوريا يعرض العراق لمخاطر ويعرض تركيا لمخاطر، ويعرض الدولة السورية لمخاطر داخلية.
فبالتالي، ينبغي الوصول إلى حلول سلمية، لكن ينبغي أن تكون سريعة التطبيق، وأن نعتمد الوثيقة التي وقعت في 10 من آذار، وينبغي أن تكون المرجعية في تنفيذ الاتفاق الحاصل، لأنه حظي بمباركة شعبية أولًا ثم حظي بمباركة سورية والولايات المتحدة وتركيا بنفس الوقت، وهذا حالة نادرة خلال السنوات العشر الماضية، فينبغي استثمار هذه اللحظة التاريخية لسوريا.
وهذا سيعود على تنظيم "قسد" بمصالح كبيرة، وأيضًا على المجتمع الكردي.
أحمد الشرع
الرئيس السوري في المرحلة الانتقالية
خلال قمة "كونكورديا" – 22 من أيلول 2025