الأربعاء, 22 أكتوبر 2025 12:23 AM

جامع الزيتونة بتونس: منارة علم وروحانية تتوارثها الأجيال

جامع الزيتونة بتونس: منارة علم وروحانية تتوارثها الأجيال

لا يزال جامع الزيتونة في قلب العاصمة التونسية، شامخًا بروحه التي تعبق بالتاريخ، وشاهدًا على عراقة التجربة الصوفية في منطقة المغرب العربي، رغم مرور العصور وتعاقب الدول.

لا يُنظر إلى جامع الزيتونة كمعلم تاريخي فحسب، بل هو فضاء روحي حي، تتجدد فيه الممارسات الدينية يوميًا، ويجد الزائر فيه سكينة وطمأنينة عند سماع الذكر المتواصل.

يُعد الجامع من أقدم المعالم الدينية والعلمية في المغرب العربي وشمال إفريقيا، حيث يعود تأسيسه إلى فترة الخلافة الأموية في القرن الأول الهجري. وقد انبثقت عنه جامعة الزيتونة، التي تُعتبر من أقدم ثلاث جامعات في التاريخ إلى جانب جامعتي الأزهر والقرويين.

تاريخ عريق

يعزو المؤرخون تأسيس الجامع إلى القائد الأموي حسان بن النعمان الغساني في العام 79 الهجري (698 ميلادي)، وقد حظي بتوسعات في العهدين الحفصي والعثماني، مما جعله منارة دينية وعمرانية تحمل بصمات الحضارة الإسلامية المتعاقبة.

ومن هذا الجامع العريق، بزغت جامعة الزيتونة، إحدى أقدم المؤسسات التعليمية في العالم الإسلامي. فقد تحول الجامع منذ القرون الأولى إلى مركز لتدريس علوم الشريعة واللغة والفقه، وتخرج فيه عبر العصور كبار العلماء والمصلحين، مثل ابن خلدون ومحمد الطاهر بن عاشور.

عند دخول المسجد، يستقبل الزائر صحن واسع يغمره الهدوء والسكينة، وتشمخ مئذنة مربعة الطراز على الجهة اليمنى، بينما تحلق أسراب الحمام بحثًا عن حبوب ينثرها رواد المسجد.

أما في الداخل، فتتجلى بساطة الروحانية وجمال التفاصيل في الأقواس الإسلامية التي تعلو الأعمدة الرخامية ذات التيجان الرومانية، والنقوش القديمة التي تزيد المكان رهبة وطمأنينة، في توليفة بصرية تأخذ الزائر إلى فضاء خارج حدود الزمن.

مجلس ذكر يتوارثه المصلون منذ قرنين

مع اقتراب صلاة العصر، يبدأ مشهد روحاني يتكرر يوميًا منذ نحو قرنين، حيث يتجمع أتباع الطريقة التيجانية - وهي طريقة صوفية نشأت في المغرب في القرن الثامن عشر وتنتشر في شمال وغرب إفريقيا - في حلقات ذكر جماعية داخل الجامع أو في أروقته.

يؤدي المشاركون ما يعرف بـ "الوظيفة اليومية"، وهي صيغة من الأذكار تردد بصوت جماعي متناغم، تبدأ بسورة الفاتحة وتنتهي بذكر اسم الجلالة، مرورًا بصيغ الاستغفار والصلاة على النبي.

يقول خالد قمار، مقدم الطريقة التيجانية في تونس، لوكالة الأناضول، إن هذه الوظيفة استقدمت إلى جامع الزيتونة عام 1920 هجريًا على يد الشيخ أبو إسحاق إبراهيم الرياحي، تلميذ مؤسس الطريقة أحمد التيجاني.

ويوضح قمار أن الحلقات تقام دون انقطاع منذ ذلك الحين، وتعد جزءًا من الموروث الروحي الذي حافظ عليه المصلون جيلًا بعد جيل.

ومن أبرز ما يتلى خلال المجلس: "أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم" و"اللهم صلِّ على سيدنا محمد الفاتح لما أغلق" بإيقاع ثابت، يعلو وينخفض بتناغم يبعث طمأنينة خاصة في أرجاء الجامع، فيما يختلف إيقاع الذكر يوم الجمعة تقديراً لمكانته الدينية.

روح لا تنطفئ

لا يقتصر جامع الزيتونة على كونه صرحًا معماريًا بديعًا أو مدرسة فقهية تاريخية، بل يتجاوز ذلك ليظل فضاءً حيًا للذكر والسكينة.

وبين جدرانه العتيقة تتجدد التجربة الروحية يوميًا، وتبقى حلقات الذكر بعد العصر شاهدة على استمرار التراث الصوفي في تونس.

كما يتداخل النفس الروحاني مع العمق التاريخي في مشهد يختصر ملامح الهوية الدينية للمغرب العربي.

مشاركة المقال: