الأحد, 28 سبتمبر 2025 05:31 PM

حلب القديمة: أسواق تتلاشى وذكريات تتآكل في ظل التحولات الحضرية

حلب القديمة: أسواق تتلاشى وذكريات تتآكل في ظل التحولات الحضرية

عنب بلدي – محمد ديب بظت: على الرغم من مرور سنوات على انتهاء المعارك في حلب وأشهر على سقوط نظام الأسد، لا تزال بعض أسواق المدينة القديمة تعاني من الركود، بعد أن فقدت دورها الاجتماعي الذي كان جزءًا من ذاكرة الأجيال. الأزقة التي كانت تعج بالحياة في الأعياد والمناسبات، أصبحت اليوم ممرات شبه خالية.

بينما كان التردد على هذه الأسواق تقليدًا اجتماعيًا يربط العائلات وأجيال الحلبيين، يتجه السكان الآن إلى الأسواق الحديثة في أحياء مثل الفرقان وسيف الدولة، بحثًا عن خدمات أفضل وبيئة تجارية أكثر أمانًا، حتى لو فقدوا روح المكان القديمة.

محال "الزهراوي" معروضة للبيع

في سوق "الزهراوي"، الذي كان يعج بالعائلات قبل الأعياد، أصبحت الحركة شبه معدومة. بدلًا من الازدحام الذي كان يسبق المناسبات، تنتشر اليوم لافتات "المحل للبيع" بين الواجهات.

مروان قلعجي، صاحب محل للألبسة النسائية في سوق "الزهراوي"، قال لعنب بلدي إن السوق كان مكتظًا في الماضي لدرجة يصعب المرور بين المحال، لكنه اليوم شبه خالٍ. وأشار إلى أن الزبائن يفضلون التوجه إلى أسواق مثل "الفرقان" أو إلى محال أقرب لمنازلهم، بسبب صعوبة الوصول وقلة الخدمات، حتى لو كانت الأسعار في "الزهراوي" أقل، فشعور الناس بعدم الأمان وغياب الحياة في المكان يجعلهم يعزفون عن المجيء.

بالنسبة له، لم يكن "الزهراوي" مجرد سوق، بل هو تقليد اجتماعي متكامل، حيث تتجول العائلات قبل الأعياد ويتعلم الأطفال المهن في الورشات الصغيرة. ومع غياب الحركة، تحولت هذه الأجواء إلى ذكريات فقط، وبقيت الواجهات صامتة، حيث الفراغ وقلة البيع.

خان الوزير.. انقطاع سلسلة الحرفيين

خان الوزير، الذي كان يعج بعشرات الورشات الصغيرة، يعاني بدوره من ركود واضح. عمار بودقة، وهو حرفي ينتمي إلى عائلة امتهنت الخياطة لأجيال، أوضح لعنب بلدي أنه كان يعمل في محل والده داخل الخان، إلا أن غياب الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والإنترنت، وقلة حركة الزبائن، دفعه إلى الانتقال نحو ورشة صغيرة في حي الإسماعيلية.

ورغم ارتفاع الإيجار هناك، يرى أن المنطقة "مخدّمة" أكثر وتتمتع بحركة تجارية أفضل. وأضاف أن أي ورشة لا يمكن أن تستمر في مكان يفتقر لأبسط مقومات العمل، مؤكدًا أن ما يحدث في خان الوزير مؤلم لكنه أصبح واقعًا لا يمكن تجاهله.

مع خروج ورشات عديدة نحو أحياء مثل الإسماعيلية والفرقان، فقد الخان سلسلة مهن عائلية كانت تورث من الآباء إلى الأبناء داخل جدران المحال، ما جعل الخسارة لا تقف عند حدود التجارة، بل تمتد إلى جزء من هوية المدينة المهنية.

ارتباك مكاني وتغير عادات

التغيرات في أسلوب الحياة بعد الحرب أسهمت بدورها في ابتعاد الناس عن الأسواق القديمة. مع الاعتماد على التكنولوجيا وظهور أسواق بديلة في أحياء مثل "الفرقان" و"سيف الدولة" و"أدونيس"، أصبح التسوق أكثر ارتباطًا بالراحة وقرب السكن وتوفر البنية التحتية.

هذا التحول خلق ارتباكًا مكانيًا لدى كثير من الأهالي، إذ يحملون صورة حية عن أسواق حلب القديمة كفضاء اجتماعي وذاكرة مشتركة، لكنهم لا يجدون في الواقع ما يشجعهم على العودة إليها.

حسناء مصري (53 عامًا)، كانت ترتاد أسواق المدينة بشكل دوري قبل سنوات الحرب، ذكرت لعنب بلدي أن الوصول إلى هذه الأسواق أصبح أصعب بسبب نقص المواصلات، والدمار الذي أصاب المنطقة، فيما الخدمات الأساسية مثل الكهرباء غير مستقرة. كل ذلك يجعل التسوق تجربة مرهقة، بدل أن تكون متعة اجتماعية كما كانت قبل سنوات الحرب.

وأشارت إلى أن غياب الأمان النسبي والخوف من الأماكن شبه المهجورة أضاف بعدًا نفسيًا آخر، إذ يشعر الكثيرون بأن هذه الأسواق فارغة ومعزولة، ما يقلل من شعورهم بالراحة في أثناء التسوق. وأكدت أن النساء بشكل خاص يفضلن الذهاب إلى أحياء توفر محيطًا آمنًا ومريحًا للعائلات، بدل التنقل في أزقة سوق "الوزير" أو "الزهراوي" المهدمة.

محاولات إنعاش ذاكرة المكان

الأسواق القديمة التي كانت ملتقى اجتماعيًا للتجار والأهالي فقدت مكانتها، فسوق الذهب، الذي كان رمزًا للمناسبات العائلية، يعيش اليوم حالة شلل شبه كامل، وسوق القطن لم يعد مركزًا للنسيج كما عرفته المدينة. في المقابل، انتقلت الحياة إلى أحياء حديثة لم تكن تقليديًا مراكز للتجارة، ما أعاد رسم خريطة التسوق واللقاءات العائلية.

شهدت بعض أسواق المدينة القديمة في حلب أعمال ترميم محدودة خلال السنوات الأخيرة، نفذتها جهات تابعة للرئيس المخلوع بشار الأسد، أبرزها "الأمانة السورية للتنمية" التي تعرف بارتباطها الوثيق بأسماء الأسد، إلى جانب مؤسسة "الآغا خان"، ما أسهم تدريجيًا في عودة الحركة إلى أسواق مثل "الجلوم" و"أنطاكية". وشملت هذه الأعمال أسواقًا متفرقة كـ"السقطية" و"العبي" و"الحبال"، وتركزت على ترميم الواجهات الحجرية وتركيب الأبواب وتحسين البنية التحتية.

ورغم أن تلك الأعمال ساعدت في إحياء بعض الأسواق الأقل تضررًا، فإن أسواقًا مركزية أخرى، مثل "الزهراوي وخان الوزير والمحمص والسويقة"، بقيت خارج دورة الحياة التجارية، نتيجة حجم الدمار الكبير فيها، وغياب خطة شاملة لإعادة تأهيلها.

اليوم، مع غياب الحركة التجارية، تبدو الأسواق كأنها متحف مهجور، أبوابها مغلقة، وجدرانها مغطاة بالغبار، والذكريات تحل محل الحياة. بالنسبة للحلبيين، لا يمثل غياب الأسواق القديمة مجرد فقدان لمكان للتجارة، بل خسارة لمساحات اجتماعية شكلت جزءًا من هوية المدينة، إذ كان ارتياد هذه الأسواق طقسًا عائليًا، وملتقى للمعارف والأصدقاء، وفرصة لعيش تفاصيل الحياة اليومية بخصوصيتها الحلبية.

كبار الحرفيين والتجار، مثل مروان قلعجي، يرون في هذه الواقع أكثر من خسارة مادية، فهي خسارة لفضاء اجتماعي متكامل، لم يعد مكانًا لتبادل المعرفة أو إحياء روح التراث المادي لتلك الأسواق.

مشاركة المقال: