تُعد تصريحات الرئيس أحمد الشرع، التي أدلى بها عبر الفيديو خلال الاجتماع الموسّع في اللاذقية، محطة مهمة تستدعي التوقف والتأمل، وذلك لما احتواه مضمونها من صراحة ووضوح، وللسياق الذي جاءت فيه، إضافة إلى الطريقة الهادئة والواثقة التي تعامل بها مع التعبيرات الشعبية التي شهدها الشارع خلال الأيام الماضية، والتي تنوعت دوافعها وأهدافها.
ما ميّز خطاب الرئيس الشرع هو عدم تجاهله لمطالب الناس، وعدم تعامله معها كحدث عابر، بل مقاربتها بصراحة لافتة، وذلك حين تحدث عن “مطالب محقّة” خرجت بها شرائح من المواطنين. وهذا يحمل دلالة واضحة على أن الدولة تنظر إلى ما يحدث بعين واقعية، وتفصل بين الحقوق الاجتماعية والاقتصادية الطبيعية وبين محاولات الاستثمار السياسي التي تسعى إلى تحويل هذه اللحظة إلى منصة لإعادة طرح مشاريع قديمة في ثوب جديد.
إن تأكيد الرئيس على شرعية بعض المطالب هو خطوة تعزّز الثقة بين الدولة والمجتمع، وتؤكد أن الحكومة ليست في موقع إنكار للظروف المعيشية أو الإدارية التي أثقلت كاهل المواطنين في بعض المناطق. لكنه في المقابل لم يترك مجالاً للّبس، فأشار بوضوح إلى أن جزءاً مما طُرح في الساحة يحمل طابعاً سياسياً مصطنعاً أو ذا ارتباطات ضيقة، هدفه التأثير على وحدة البلاد من بوابة الفدرالية أو الانفصال أو إعادة تعريف السلطة خارج إطار الدستور.
هذا التفريق بين المطالب يضع خريطة طريق متوازنة تتلخص في استجابة واعية لما هو مشروع، وحزم واضح تجاه ما يُراد له أن يمسّ الثوابت. ولعلّ حديث الرئيس الشرع عن أن مؤسسات الدفاع والأمن والخارجية والاقتصاد غير قابلة للتجزئة يكشف رسائل أبعد من الداخل، فهو يذكّر بأن قوة الدولة تُقاس بقدرتها على الحفاظ على سيادة مؤسساتها، وأن أي طروحات تتجاوز الإدارة المحلية أو تنحرف باتجاه صياغات تفكيكية ليست سوى مشاريع تجد جذورها في جهل سياسي أو مكاسب ضيقة لا تعبّر عن نبض المجتمع.
في موازاة ذلك، قدّم الرئيس الشرع رؤية استراتيجية للساحل السوري بوصفه محوراً اقتصادياً مستقبلياً ومنفذاً حيوياً على الممرات التجارية، مؤكداً أن قوته لا تأتي من كونه منطقة منفصلة، بل من كونه جزءاً لا يتجزأ من الجغرافيا السورية بكل تنوعها وإمكاناتها. هذه الرسالة تحمل بعداً اقتصادياً وسياسياً في آن واحد، فالاستثمار في خصوصية الساحل لا يعني عزله، بل تعزيزه ضمن إطار وطني أوسع.
كما يلفت النظر انتقال الخطاب من معالجة اللحظة الآنية إلى قراءة أوسع للمشهد الوطني، حين تحدّث الرئيس الشرع عن أن سوريا “تجاوزت مرحلة الخطورة” وأنها اليوم أمام “مفصل تاريخي مهم”، وهو ما يعكس ثقةً تستند إلى سياسات استقرار نسبي، وإلى قناعة بأن اللحظة الراهنة هي لحظة تثبيت النتائج لا فقط إدارتها.
إن القيمة الإعلامية والسياسية لتصريحات الرئيس الشرع تكمن في أنه يجمع بين الواقعية في توصيف المشكلات، والحزم في مواجهة محاولات التسييس، والرؤية في رسم أفق تنموي واستراتيجي للمرحلة المقبلة. وهي مقاربة قلّما تُستخدم في لحظات الضغط، إذ اعتادت الشعوب في تجارب عديدة أن تسمع خطاباً دفاعياً أو انفعالياً، بينما جاء خطاب الرئيس الشرع أقرب إلى خطاب “إدارة الدولة” لا خطاب الاستجابة الطارئة.
في المحصلة، قد يكون لهذه الرسائل دور أساسي في تهدئة المناخ العام وإعادة ترتيب الأولويات الوطنية، فالتحديات لا تُواجه بردود أفعال متشنجة، بل بإدارة حكيمة تفصل بين ما هو حق وما هو استغلال، وبين ما هو ظرفي وما هو استراتيجي. ومن الواضح أن الدولة، وفق ما ظهر في الخطاب، تتجه نحو تعزيز هذا النهج عبر تعزيز الوحدة الوطنية، تطوير الإدارة، وحماية السيادة، من دون تجاهل نبض الشارع ولا السماح بالعبث بثوابته.
الوطن