حين تفقد الشعوب رموزها وتترك هويتها معلقة، يصبح أي تفصيل بسيط – كشعار أو لون أو كلمة – ساحة لصراع رمزي يتجاوز الظاهر. ليس الشعار بذاته قضية وجود، بل يتحول إلى مرآة تعكس هشاشتنا وتكثف شكوكنا وتسقط عليها جراحنا.
في سوريا، وفي ظل وطن لم يلتئم، أثار الجدل حول الشعار البصري الجديد عاصفة. انقسمت الأصوات بين مادح ومنتقد، وكأننا نحاكم ذواتنا لا نصمم شعارًا. كلا الفريقين لم يقم بقراءة فنية أو تحليل دلالي، بل صرخ من مكان ما في الداخل.
في عمق هذا الانفعال، تظهر أعراض عقدة الدونية، حيث يشعر الإنسان أن قيمته مرتبطة بما ينقصه من الآخر، فيقلل من شأن كل ما حوله بسبب ارتيابه الدائم. لا ينبع نقده من وعي، بل من قلق يسعى لتبديد شعور بالعجز، وكأنه يعلن: "إن لم أسقط العالم، سيسقطني ثقله." فتتحول السخرية إلى درع والرفض إلى قناع.
على الجانب الآخر، يظهر سلوك التزلف، حيث يبرر البعض ويمجد ويثني بإفراط، معتقدين أن ولاءهم للرمز يثبت وجودهم. هذا السلوك ينبع من عقدة الخصاء، حيث يتماهى الفرد مع القوة خوفًا من فقدان ذاته الضعيفة، فيخضع لها طواعية.
هكذا نجد نمطين متقابلين: أحدهما يهاجم ليثبت وجوده، والآخر يتماهى خوفًا من السقوط. وبينهم فئة قليلة تزن الأمور بعدل، وتعرف كيف تثني وتنتقد دون مبالغة. هؤلاء لا يرون في النقد عداوة ولا في الثناء بيعًا للكرامة.
لماذا يتحول الشعار إلى ميدان احتدام؟ الجواب يكمن في الغريزة القطيعية، حيث يفقد الإنسان ثقته بذاته ويذوب في جماعة تتيح له الصراخ، لا لأنه يملك رأيًا، بل لأنه يخشى الوحدة. فيتحول الرأي إلى هوية بديلة والموقف إلى راية.
في المجتمعات التي خرجت من الحروب بلا شفاء، يصبح كل خلاف فرصة لتصفية الحساب مع الذات. كل رمز يتحول إلى جبهة، وكل رأي إلى معسكر، ويضيع الصوت المعتدل بين المديح المجاني والرفض الغريزي.
ما يحدث في سوريا ليس جدلاً حول شعار، بل هو ارتباك جماعي في تعريف الذات وغياب للبوصلة الرمزية، حيث يقاس الانتماء بالصراخ وتوزع الوطنية كالأدوار في مسرح ضبابي. لا أحد يسأل: من نحن الآن؟ لا كدولة، بل كأفراد فقدوا القدرة على القول الصافي والحكم الحر.
هكذا، في ظل هذا التيه، يطفو الصدى بلا مصدر ويتراقص الظل على جدران الخوف. والشعار سطح عاكس أضاء وجوهنا المتعبة، فانقسمنا لأننا لا نحتمل أن نكون صادقين.
بقلم: د. سلمان ريا