السبت, 10 مايو 2025 06:25 AM

سوريا ما بعد الأسد: الكشف عن مقابر جماعية ومساعٍ مضنية لتحديد هوية الضحايا

سوريا ما بعد الأسد: الكشف عن مقابر جماعية ومساعٍ مضنية لتحديد هوية الضحايا

"هذه الرفات من مقبرة جماعية مختلطة"، هكذا يقول الدكتور أنس الحوراني، رئيس مركز تحديد الهوية السوري الذي افتُتح حديثاً. يقف بجوار طاولتين مغطاتين برفات بشري من عظام الفخذ، حيث رُتبت ورُقمت 32 عظمة فخذ بشرية بدقة. الفرز هو المهمة الأولى في سلسلة طويلة من الإجراءات لتقديم مرتكبي الجرائم إلى العدالة في سوريا.

تعني "المقبرة الجماعية المختلطة" أن الجثث رُميت فوق بعضها البعض. يُرجح أن هذه العظام تعود لأشخاص ضمن مئات الآلاف الذين يُعتقد أنهم قُتلوا على يد نظامي بشار الأسد ووالده حافظ، اللذين حكما سوريا لأكثر من خمسة عقود. يقول الدكتور الحوراني إنهم قد يكونون من بين الضحايا الأحدث عهداً، إذ ماتوا منذ ما لا يزيد عن عام.

الدكتور الحوراني طبيب أسنان شرعي، يؤكد أن الأسنان يمكن أن تكشف الكثير عن الجثة، خاصةً في تحديد الهوية. أما عظم الفخذ، فيمكن لعمال المختبر في دمشق من خلاله معرفة الطول والجنس والعمر ونوع العمل الذي كان يمارسه أصحاب الرفات، وربما ما إذا كان الضحية قد تعرض للتعذيب. المعيار الرئيسي في تحديد الهوية هو تحليل الحمض النووي، لكن يوجد مركز واحد فقط لفحصه في سوريا، حيث دُمرت العديد من المراكز خلال الحرب، وبسبب العقوبات، فإن الكثير من المواد الكيميائية الأولية غير متوفرة. كما أن أجزاء من الأجهزة اللازمة للتحليل قد تُستخدم في الطيران، وبالتالي تُعتبر "مزدوجة الاستخدام" ويُحظر تصديرها إلى سوريا من قِبل العديد من الدول الغربية. يُضاف إلى ذلك التكلفة: 250 دولاراً أمريكياً للاختبار الواحد، وفي المقبرة الجماعية المختلطة، يتعين إجراء حوالي 20 اختباراً لجمع كل أجزاء جسد واحد. يعتمد المختبر كلياً على تمويل اللجنة الدولية للصليب الأحمر.

تقول الحكومة الانتقالية في سوريا إن "العدالة الانتقالية" من أولوياتها. لكن العديد من السوريين الذين فقدوا أقاربهم ولم يعثروا على جثثهم، أعربوا عن عدم رضاهم وإحباطهم، مطالبين بمزيد من الجهود من قِبل الثوريين الذين أطاحوا بحكم بشار الأسد. خلال سنوات الحرب الطويلة، قُتل مئات الآلاف وشُرّد الملايين، واختفى قسراً أكثر من 130 ألف شخص. بالوتيرة الحالية، قد يستغرق الأمر وقتاً طويلاً لتحديد هوية ضحية واحدة فقط من مقبرة جماعية مختلطة، وهو عمل يستغرق سنوات طويلة، كما يقول الدكتور الحوراني.

إحدى عشرة مقبرة من تلك "المقابر الجماعية المختلطة" متناثرة حول قمة تل قاحل خارج دمشق. بي بي سي هي أول وسيلة إعلام دولية ترى هذا الموقع. يرافقهم حسين علوي المنفي، أو "أبو علي"، سائق سابق يعمل مع الجيش السوري، كان ينقل الجثث إلى هذه المواقع. تمّ العثور على أبو علي بفضل العمل الاستقصائي لمعاذ مصطفى، المدير التنفيذي السوري الأمريكي لقوة الطوارئ السورية. نقل أبو علي شاحنات محملة بالجثث إلى مواقع متعددة لأكثر من عشر سنوات، وكان يأتي إلى هذا الموقع مرتين أسبوعياً بين عامي 2011 و2013. كان ينقل ما معدله 150 إلى 200 جثة في كل حمولة، ويقول إنه مقتنع بأن حمولته كانت لمدنيين مشوّهين ومعذّبين، وكان بإمكانه تمييز هوياتهم بأرقام مكتوبة على الجثث، تُشير إلى مكان وفاتهم، والكثير منها جاء من "الفرع 215"، مركز اعتقال سيء السمعة.

وصل إلى الموقع ثلاثة رجال من قرية مجاورة، يؤكدون قصة الزيارات المنتظمة للشاحنات العسكرية. يقول أبو علي إنه تعلم أن يكون "خادماً صامتاً" للدولة، وبينما كان الجنود يلقون بالجثث في الحفر، كان يبتعد وينظر إلى النجوم.

دمشق هي المكان الذي عادت إليه السورية ملك عودة مؤخراً، بعد سنوات قضتها لاجئة في تركيا. في عام 2012، اختفى ابناها محمد وماهر. محمد جُنّد في جيش الأسد، لكنه فرّ منه وشارك في المظاهرات، فتم تعقّبه وتعذيبه. بعد ستة أشهر، اقتاد الضباط ماهر من المدرسة، بعد أن شارك في الاحتجاجات عام 2011 وتعرض للتعذيب في اعتقاله الأول. تعتقد ملك أن ماهر اختفى من المدرسة عام 2012، لأن السلطات اكتشفت أنها كانت تخفي شقيقه الأكبر. عادت ملك إلى المدرسة متلهفة لمعرفة ما حدث لماهر، وعثرت على سجل يفيد بأنه طُرد من المدرسة لتغيبه عن الدروس، لكن لا يوجد تفسيرٌ لإخفاء الدولة له. عُثر على ملفٍّ يحتوي على سجلات ماهر المدرسية، وغلافه مُزيّن بصورةٍ لبشار الأسد، فقامت ملك بتخريب الصورة.

لسنوات، لم يكن لدى ملك أي أثر لماهر تتشبث به، سوى رجلين يقولان إنهما شاهدا ماهر في "الفرع 2015". حكى أحد الرجلين لملك أن ابنها أخبره شيئاً عن والديه، وهو شيء لا يعرفه سواه. بالنسبة لملك، لم يكن سقوط الأسد مجرد يوم فرح، بل يوم أمل، لكنها لم تتمكن حتى من العثور على اسم ابنها في قوائم السجناء. وهكذا يستمر نبض الألم يسري في جسدها، وتشعر بالضياع والارتباك.

مشاركة المقال: