يمثل الاتفاق الأولي الذي تم توقيعه في واشنطن بين أرمينيا وأذربيجان تحولاً ملحوظاً في المشهد الجيوسياسي في جنوب القوقاز. على الرغم من أنه لم يصل بعد إلى مرحلة التوقيع النهائي، إلا أنه يفتح الباب أمام تحولات محتملة في التوازنات الإقليمية، ويثير تساؤلات حول الدور الأميركي والموقف الروسي وأهداف الطرفين.
جاء الاتفاق في ظل تحولات إقليمية ودولية معقدة، أبرزها الحرب الروسية–الأوكرانية التي أضعفت قدرة موسكو على الإمساك بملف القوقاز بقبضة حديدية، والدور التركي المتنامي في المنطقة، والذي يتقاطع مع المصالح الأميركية في إضعاف النفوذ الروسي وتعزيز ممرات الطاقة نحو أوروبا، بالإضافة إلى انفتاح أرمينيا على الغرب بعد سنوات من الاعتماد شبه الكامل على روسيا كضامن أمني.
أميركا في قلب القوقاز
إلى جانب رمزية انعقاد الاجتماع في واشنطن، فإن تاريخ هذا الاتفاق في 8 آب/أغسطس يحمل دلالات خاصة، إذ يتطابق مع ذكرى التدخل العسكري الروسي في جورجيا عام 2008، حين أرادت موسكو توجيه رسالة بأنها اللاعب الحاسم في القوقاز. واليوم، بعد 17 عاماً، تعود الولايات المتحدة إلى المشهد عبر وساطتها بين باكو ويريفان، في لحظة تتقاطع فيها أزمات دولية كبرى: حرب غزة، والهجوم الإسرائيلي على إيران، والحرب في أوكرانيا، والأزمة الهندية–الباكستانية، معلنةً نهاية مرحلة كانت فيها موسكو اللاعب الوحيد في المنطقة.
تضمن الاتفاق المبدئي 17 بنداً، من أبرزها:
- اعتراف أرمينيا بسيادة أذربيجان على إقليم ناغورني كراباخ، مع التزام بعدم دعم أي مطالبات انفصالية مستقبلية.
- انسحاب القوات الروسية وقوات الاتحاد الأوروبي من النقاط الحدودية خلال فترة انتقالية، في خطوة تعني عملياً إبعاد موسكو عن ملف ترسيم الحدود.
- التخلي المتبادل عن القضايا المرفوعة أمام المحاكم الدولية وإغلاق ملف التعويضات.
- عدم وجود نص يمنع إنشاء قواعد عسكرية لدولة ثالثة، ما يفتح الباب أمام وجود عسكري أميركي أو أطلسي بعد انسحاب القوات الروسية، سواء عبر قواعد أو منظومات مراقبة.
- اعتماد اللغة الإنكليزية كلغة رسمية للنص القانوني للاتفاق، وغياب النسخة الروسية للمرة الأولى في خطوة ذات دلالة سياسية.
الاتفاق الحالي هو خطوة أولية، شبيهة بمراحل سابقة في موسكو وبروكسل. لم يتحقق السلام بعد، لكن الإعلان يمثل تثبيتاً للوضع القائم وتهيئة لمراحل تفاوضية لاحقة. ويبقى جوهر العملية في ملفات عالقة مثل ترسيم الحدود وقضية ممر زانغيزور.
تشهد العلاقات الأذربيجانية–الأميركية في هذه الأثناء تطوراً ملحوظاً، مع وجود لجنة عمل مشتركة للتعاون الاستراتيجي وتوقعات بالتوقيع على اتفاقية شراكة خلال الأشهر المقبلة. وتسعى باكو لتعزيز مكانتها كقوة إقليمية متوسطة قادرة على المناورة بين القوى الكبرى.
على مدى ثلاثة عقود، اتبعت أذربيجان سياسة خارجية متوازنة، أتاحت لها التعاون مع روسيا والغرب في آن واحد. وحتى في الفترات التي وُصفت فيها بـ "الموالية لموسكو"، نفذت مشاريع استراتيجية كبرى مع الغرب، مثل خطوط أنابيب باكو–جيهان، وباكو–تبليسي–أرضروم، وممر باكو–كارس، بالتعاون الوثيق مع تركيا. وبعد حرب كراباخ الثانية عام 2020، أعادت أذربيجان صياغة هذا التوازن عبر اتفاقيات استراتيجية مع تركيا وروسيا والصين، والآن مع الولايات المتحدة، في مسار يشبه سير سفينة في بحر مضطرب، تميل يميناً ويساراً حسب اتجاه الأمواج.
وبالمثل، اتجهت يريفان في عهد رئيس الوزراء نيكول باشينيان أكثر نحو الغرب، حتى أنها شكلت مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة آلية ثلاثية استراتيجية. لكن التحدي المقبل يكمن في كيفية التوازن بين هذا التوجه وموقف الإدارة الأميركية الجديدة من إيران وروسيا.
حرب الممرات
يُعد الممر الجنوبي أحد أكثر الملفات حساسية، إذ تقع المنطقة داخل أراضي أرمينيا وتشكل شرياناً استراتيجياً لربط أذربيجان بجمهورية ناخيتشيفان ذات الحكم الذاتي، ومنها إلى تركيا. نص اتفاق وقف إطلاق النار بعد حرب كراباخ الثانية على فتح هذا الممر تحت إشراف روسي، لكن أرمينيا رفضت التنفيذ خشية تكريس نفوذ موسكو.
مع دخول واشنطن على الخط، أصبح الممر جزءاً من حسابات أوسع:
- بالنسبة للولايات المتحدة: هو نقطة ضغط على إيران وجزء من "الممر الأوسط" الذي يربط الصين بأوروبا، وإذا نجحت في إقصاء روسيا عن المنطقة، ستؤمّن ممرات الطاقة من بحر قزوين إلى أوروبا بعيداً عن النفوذ الروسي والإيراني.
- بالنسبة لتركيا: يمثل حلقة وصل حيوية في مشروع التكامل مع دول منظمة الدول التركية.
- بالنسبة لروسيا: هو ورقة جيوسياسية تمنحها قدرة على التأثير في التجارة والتحالفات الإقليمية.
دخل الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الساعي إلى الصفقات الكبرى والحالم بجائزة نوبل للسلام، على خط الممر، مقترحاً إنشاء كونسورتيوم أميركي–أرمني يدير "طريق ترامب للسلام والازدهار الدولي" بعقد استثمار لمدة 99 عاماً، في خطوة تشبه اتفاقية النفط عام 1994 التي أنهت احتكار روسيا للطاقة في أذربيجان.
لم يمر الاتفاق مرور الكرام في موسكو. فبعد ساعات من تسريب مسودته، استهدفت القوات الروسية منشآت تابعة لشركة الطاقة الأذربيجانية "سوكار" في مدينة أوديسا الأوكرانية، إضافة إلى محطة لضغط الغاز، في رسالة سياسية مغلّفة بالنار. وفي المقابل، لمحت وسائل إعلام أذربيجانية إلى أن استمرار الضربات الروسية قد يدفع باكو إلى تزويد أوكرانيا بالسلاح علناً، في تصعيد غير مسبوق.
التوازن الإقليمي في القوقاز… ضرورة وجودية
على الورق، قد ينهي الاتفاق نزاعاً دموياً استمر عقوداً، لكن على الأرض تبقى تحديات مثل إعادة دمج الأرمن في كراباخ ضمن السيادة الأذربيجانية، وتسوية قضايا اللاجئين، وضمانات أمنية تمنع تجدد الاشتباكات.
تعاني أرمينيا إحباطاً شعبياً تجاه روسيا منذ حرب كراباخ الأولى، ما دفعها للتقارب مع الغرب. لكن التحدي يكمن في إدارة هذا التوجه بحذر، خصوصاً في ظل المعارضة الداخلية وخطورة استفزاز موسكو. فالوجود الروسي في أرمينيا لا يزال قوياً، ليس فقط عبر القاعدة العسكرية، بل أيضاً من خلال سيطرة شركاتها على قطاعات حيوية مثل السكك الحديدية والكهرباء والمناجم.
يسعى باشينيان إلى تقليص هذا النفوذ بإدخال الشركات الأميركية، لكنه يتجنب الصدام المباشر مع موسكو قبل الانتخابات، مدركاً أن إخراج روسيا من مناطق نفوذها تاريخياً لم يكن مهمة سهلة. وبعد الانتخابات، قد يفتح ملف تعديلات دستورية تسمح بانضمام بلاده لتحالفات عسكرية جديدة، وهو ما قد يقلص النفوذ الروسي تدريجياً.
لكن احتمال تحول المنطقة إلى ساحة صراع أميركي–روسي يزيد من مخاوف أرمينيا، التي تبقى الحلقة الأضعف في معادلات المنطقة السياسية والاقتصادية.
تقف منطقة جنوب القوقاز اليوم على مفترق طرق، حيث تتقاطع مصالح القوى الكبرى مع الفاعلين المحليين، ويعتمد نجاح المرحلة المقبلة على قدرة الأطراف على إدارة التوازنات الدقيقة وتجنب الانزلاق إلى مواجهة شاملة. فالتوازن في القوقاز ليس خياراً… بل ضرورة للبقاء.
اخبار سورية الوطن 2_وكالات _النهار اللبنانية