الأحد, 19 أكتوبر 2025 08:43 PM

غياب الثقة يعيق مشاركة المصارف الخاصة في جهود إعادة الإعمار بسوريا

غياب الثقة يعيق مشاركة المصارف الخاصة في جهود إعادة الإعمار بسوريا

عنب بلدي – وسيم العدوي

بعد التحولات السياسية وتغير النظام في سوريا، واجهت المصارف الخاصة تحديات كبيرة في التكيف مع بيئة اقتصادية جديدة تتسم بالغموض، وتراجع الثقة العامة، وعدم استقرار الإطار التشريعي الذي ينظم القطاع المالي. وعلى الرغم من مساعي الحكومة لإعادة هيكلة النظام المصرفي وتخفيف بعض القيود على حركة رؤوس الأموال، ظل أداء المصارف الخاصة محدودًا، مع ميل نحو الحذر بدلًا من المبادرة. ويُعتبر عدم تقديم أغلبية هذه المصارف لإفصاحات إلى سوق دمشق للأوراق المالية خلال فترة توقف السوق مؤشرًا على ذلك.

تحتفظ المصارف الخاصة في سوريا برأس مال يقارب 100 مليار ليرة سورية (ما يزيد على تسعة ملايين دولار بأسعار الصرف المحلية). هذا الرقم، قد لا يكون كبيرًا في دول متعافية، لكنه ليس هامشيًا في اقتصاد متضرر من العقوبات، ويمثل قدرة كامنة لتمويل مشاريع كبرى في إعادة إعمار البلاد وتأهيل البنية التحتية، إذا توفرت الإرادة لتوظيف السيولة المالية بكفاءة وأمان.

في المقابل، شهد أداء المصارف العامة حالة من الشلل نتيجة نقص السيولة النقدية، مما أدى إلى تقنين صرف الرواتب وتوقف التسهيلات الائتمانية (قروض وكفالات مصرفية)، باستثناء المصرف الصناعي الذي بدأ مؤخرًا بتقديم قروض استجابة لطلب الصناعيين للتمويل.

انخفضت معدلات الإقراض الإنتاجي في المصارف الخاصة إلى مستويات متدنية، وتركز النشاط المصرفي في الخدمات التجارية قصيرة الأجل، وتمويل الاستيراد المحدود، وإدارة التحويلات المالية للمغتربين، دون الدخول في مشاريع طويلة الأمد تتعلق بالبنية التحتية أو القطاعات الصناعية.

غياب التمويل وتراجع الإنتاج المحلي

يتميز القطاع المصرفي في سوريا بكونه مختلطًا، حيث يضم مصارف متخصصة مملوكة للدولة، ومصارف تجارية وإسلامية خاصة، تعتمد غالبًا على نماذج مصرفية عربية. هذه المصارف لم تتمكن في ظل النظام السابق من ممارسة العمل المصرفي الحر، مما قلل من دورها في الاقتصاد السوري.

أوضح الخبير الاقتصادي والمصرفي الدكتور إبراهيم نافع قوشجي، لعنب بلدي، أن ممارسات وزارة المالية السورية وضغوطات مصرف سوريا المركزي على المصارف في عهد النظام السابق، أدت إلى غياب الاستثمارات الوطنية ذات الطابع التنموي، واقتصرت الأنشطة الاستثمارية على مشاريع تعبئة وتغليف لمواد مستوردة، دون أن تسهم في تعزيز الإنتاج المحلي أو التنمية الاقتصادية. وأرجع قوشجي ذلك إلى غياب السياسات الائتمانية المبنية على الجدوى الاقتصادية الحقيقية، حيث كانت تعتمد على وثائق محاسبية تُظهر أن المدين لا يحتاج فعليًا إلى التمويل، مما أعاق تطور العمل المصرفي في مجال الاستثمار الحقيقي والشفاف، وهو ما كان متوافقًا مع طبيعة الاقتصاد المغلق آنذاك.

تحرير الاقتصاد والإصلاح المصرفي

مع توجه الحكومة الجديدة نحو اقتصاد السوق والانفتاح على العالم، أكد قوشجي على ضرورة إصلاح الجهاز المصرفي التجاري، وإنشاء مصارف استثمارية تتماشى مع متطلبات الاقتصاد الحديث، لتقديم خدمات مصرفية سليمة تدعم المشاريع الاستثمارية التنافسية وتعزز النشاط الاقتصادي الحر. ويرى قوشجي أن مصرف سوريا المركزي بسياساته الانفتاحية الجديدة، أصبح يمثل حجر الأساس في بناء بيئة مصرفية سليمة ومنظمة، خاصة في المرحلة الراهنة التي تشهد اضطرابات واضحة في آليات السوق المالية. فمع التحول نحو اقتصاد أكثر انفتاحًا وتنافسية، تبرز الحاجة الملحة إلى دور فاعل للمصرف المركزي في ضبط الإيقاع المصرفي، وتوجيه السياسات النقدية بما يحقق الاستقرار المالي ويعزز الثقة بالقطاع المصرفي.

أكد الخبير المصرفي أن السوق المصرفية في الوقت الحالي تعاني من حالة من الفوضى في تحديد أسعار العمولات والفوائد، حيث تغيب المعايير الموحدة والرقابة الفعالة، مما يؤدي إلى تفاوت كبير في تكلفة الخدمات المصرفية بين مؤسسة وأخرى، هذا التفاوت يخلق بيئة غير شفافة، ويضعف من قدرة المستثمرين والمودعين على اتخاذ قرارات مالية مدروسة، كما يفتح المجال أمام ممارسات غير عادلة قد تضر بالاقتصاد الوطني. إضافة إلى ذلك، يشهد القطاع المصرفي معوقات سحب السيولة من قبل أصحاب الاستحقاقات، سواء كانوا أفرادًا أو مؤسسات، نتيجة لانعدام الثقة بالسياسات النقدية السابقة، التي اتسمت بالتقييد والجمود، حسب قوشجي، وهذا النزيف في السيولة يضعف قدرة المصارف على تمويل المشاريع الإنتاجية، ويحد من دورها في دعم النمو الاقتصادي.

أمريكا تخفف القيود

على صعيد السياسات الخارجية، خففت بعض الجهات الدولية منتصف العام 2025، كالولايات المتحدة، بعض القيود التي كانت تعوق جزئيًا الخدمات المالية السورية، ما يمكن أن يغير معادلات التمويل المصرفي الخاص على المدى المتوسط إذا سبقه بناء ثقة ومراسلات بنكية، بحسب ما أكده مكتب مراقبة الأصول الأجنبية (OFAC) التابع لوزارة الخزانة الأمريكية. كما تشير تقارير البنك الدولي إلى تعافٍ اقتصادي مصرفي ضعيف ومتدرّج في سوريا لسنة 2025، بنمو متواضع يقارب 1%، ولا تكاد هذه النسبة تؤثر في قدرة المصارف الخاصة على التمويل.

المؤشرات المصرفية في بورصة دمشق

توصف السوق المالية السورية بأنها مرآة الاقتصاد المصرفي والاستثمارات، وفي قراءة لمؤشرات أداء هذه السوق التي أقلعت في بداية حزيران الماضي، نجد أن غالبية البنوك الخاصة لم تلتزم بالمجمل بتقديم إفصاحات لسوق دمشق للأوراق المالية طيلة فترة توقفها عن العمل، حول التقارير نصف السنوية لهذه المصارف ولا سيما الأرباح والخسائر، الأمر الذي يعكس حالة الجمود والتردد لدى هذه المصارف.

توضح أرقام السوق أن بعض البنوك تحقق أرباحًا تشغيلية ومنتظمة، لكن عدم تحول تلك الموارد إلى قروض ضخمة لتمويل مشاريع إعادة الإعمار يعود إلى تداخل عدة عوامل، يوضحها الخبير المصرفي قوشجي، وهي:

  • مخاطر العملة والهيكلية: حتى لو حقق بنك ربحًا بمليارات الليرات، فإن قيمة هذه الأرباح الحقيقية تُقاس بالدولار أو بسلة سلع لتمويل الاستيراد وشراء الآلات، وتقلب سعر الصرف وفقدان القوة الشرائية يجعل التخطيط لتمويل مشاريع بالدولار طويلة الأمد غير عملي.
  • محدودية السيولة القابلة للتمويل طويل الأجل: لأن نسبة الودائع القابلة للإقراض، ومخصصات الضمان من المخاطر، ومتطلبات مصرف سوريا المركزي (مثل الاحتياطي الإلزامي ومطالبات تسديد رأس المال) تقلّل من القدرة على تقديم قروض كبيرة دفعة واحدة، وحتى لو بدا أن إجمالي رؤوس الأموال كبير اسميًا.
  • غياب آليات مشاركة ضمان المخاطر مثل التمويل الدولي والبنوك المراسلة، إذ إن مشاريع إعادة الإعمار تتطلب عادة مشاركة مؤسسات تمويلية دولية أو ضمانات سيادية.
  • مخاطر قانونية وتنفيذية، إذ إن غياب بيئة قضائية مستقرة وعقود تنفيذ واضحة، يرفع من تكلفة رأس المال ويجعل البنوك حذرة من تمويل مشاريع بنية تحتية طويلة الأجل دون ضمانات قوية.

الحل في إصلاحات جذرية

يُسمح للمصارف الخاصة السورية التعامل بالقطع الأجنبي، سواء من خلال الإيداع أو الإقراض أو البيع والشراء، ويرى الدكتور قوشجي أن هذا الأمر بالغ الأهمية في ظل الحاجة إلى الانفتاح على الأسواق العالمية، علمًا أن معظم هذه المصارف تمتلك مراكز سيولة بالعملات الأجنبية، مما يؤهلها للتعامل بكفاءة مع العمليات المالية الدولية، ويعزز من قدرتها على جذب الاستثمارات الأجنبية والمحلية.

مع ما سبق، يرى الخبير الاقتصادي والمصرفي أن هذه الإمكانيات لن تُستثمر بالشكل الأمثل ما لم يتم:

  • إصلاح السياسات النقدية بشكل جذري.
  • تفعيل دور مصرف سوريا المركزي في الرقابة والتنظيم من خلال وضع أطر قانونية واضحة.
  • تطبيق معايير شفافة لتحديد أسعار الفوائد والعمولات.
  • ضمان استقرار السيولة داخل النظام المصرفي.

وأكد أن إعادة الثقة بالقطاع المصرفي السوري تتطلب نهجًا جديدًا يقوم على الشفافية، والكفاءة، والعدالة في تقديم الخدمات المالية، بما يتماشى مع متطلبات الاقتصاد الحديث، لأن السياسات السابقة للمصرف المركزي، أدت إلى تجميد السيولة بالليرة السورية والعملات الأجنبية، وأسهمت في فقدان الثقة بالقطاع المصرفي، مما أدى إلى خروج السيولة بشكل كبير من المصارف وعدم عودتها، ولن يتم استعادة هذه الثقة إلا من خلال إصلاحات جذرية تضمن الشفافية وسلامة الأداء المصرفي.

لا صفقات ضخمة في بورصة دمشق

بعد إعادة فتح السوق المالية السورية شهدت جلسة الافتتاح مشاركة رسمية ومؤشرات تداول مهمة، لكن السيولة المنظمة اللازمة لإبرام صفقات تمويلية ضخمة لم تظهر فورًا، من خلال إفصاحات المصارف الخاصة، لأن وجود صفقات كبيرة يتطلب سوقًا أكثر عمقًا وسيولة.

وبناء على كل ما تقدم، فإن القدرة على تمويل مشاريع ضخمة موجودة اسميًا، فقط، إذ أظهرت عدة بنوك أرباحًا في النصف الأول من 2025، وإجمالي رؤوس الأموال المصرّح عنه يعطي هامشًا نظريًا للتمويل، لكنّ التحوّل إلى دور تمويلي واسع يتطلب تحقيق شروط عديدة، حسب قوشجي مثل:

  • استقرار سعر الصرف.
  • آليات ضمان دولي.
  • توفر بنوك مراسلة خارجية.
  • وضع قانوني واضح لتقليل مخاطر الإقراض طويل الأمد.

ويمثل استئناف التداول في سوق دمشق خطوة مهمة، لكن تحويل سيولة السوق إلى تمويل بنية تحتية يتطلب نموًا تدريجيًا في السيولة، وآليات إصدار سندات طويلة الأجل، وأسواق ثانوية نشطة داعمة لسوق دمشق.

مشاركة المقال: