في المنعطفات التاريخية التي تمر بها الأوطان، وخاصة خلال مراحل التعافي وإعادة بناء مؤسسات الدولة، تبرز تحديات جسيمة لا تقل أهمية عن التحديات الميدانية. لعل أخطرها هو حماية المال العام وضمان عدم تحول ملفات الفساد الموروثة إلى ثغرات جديدة يستغلها أصحاب المصالح والنفوذ لترسيخ مكاسبهم على حساب المصلحة الوطنية العليا.
تثير دوائر مطلعة ومصادر متقاطعة من داخل مؤسسات حيوية أهمها الشركة السورية للغاز، ووزارة النفط عموما، مخاوف جدية حول تعرض لجان متخصصة مكلفة بحصر وتقييم الأضرار في ملفات فساد كبرى لضغوط هائلة. هذه اللجان، التي يُعقد عليها الأمل في استرداد حقوق الدولة المقدرة بمئات المليارات، تجد نفسها في مواجهة مباشرة مع شبكات مصالح تسعى لتمييع الحقائق وتصفير الأضرار بشكل قانوني في ظاهره، ولكنه كارثي في جوهره.
منهجية الالتفاف على القانون
تكشف المعلومات عن منهجية منظمة يتم اتباعها للالتفاف على قرارات الجهات القضائية، مثل إدارة قضايا الدولة، التي تطالب بحساب الضرر المالي بشكل كامل. ويتمثل جوهر هذه المنهجية في التركيز على بند قانوني وفني دقيق يُعرف بـ "فوات المنفعة". هذا البند لا يمثل فقط الخسارة المباشرة، بل الأرباح التي كان يمكن للدولة تحقيقها لو لم يتم هدر تلك الأموال أو تعطيل تلك المشاريع.
وتعمل الجهات ذات المصلحة، عبر وسطاء وفاعلين من داخل بعض المؤسسات، على ممارسة شتى أنواع الضغط على الخبراء وأعضاء اللجان الفنية لدفعهم نحو إصدار تقارير تتجاهل "فوات المنفعة" وتجعلها "صفراً". وبهذه الخطوة، يتم تفريغ ملف الضرر من قيمته الحقيقية، مما يتيح للمتورطين التهرب من مسؤوليات مالية ضخمة، ويحرم خزينة الدولة من أموال هي في أمس الحاجة إليها لتمويل مشاريع إعادة الإعمار والخدمات الأساسية للمواطنين.
أمن وطني واقتصادي
إن هذا التلاعب لا يمثل قضية فساد إداري أو مالي فحسب، بل يرقى إلى مستوى يمس الأمن الاقتصادي والوطني. فكل تقرير يتم تسييسه، وكل مليار يتم شطبه بضغطة قلم غير مسؤول، هو تقويض مباشر لثقة المواطن بمؤسسات دولته، ورسالة سلبية مفادها أن آليات الفساد القديمة قادرة على التكيف والاستمرار بأشكال جديدة.
إن مرحلة التعافي الوطني تتطلب موارد هائلة، وهذه الموارد يجب أن تأتي أولاً من استرداد الحقوق المنهوبة ومحاسبة المسؤولين عنها، لا من تحميل المواطن أعباء جديدة.
نداء إلى أجهزة الرقابة العليا
من هنا، يصبح لزاماً على الأجهزة الرقابية العليا في الدولة، وفي مقدمتها الجهاز المركزي للرقابة المالية، أن تولي هذه الظاهرة أولوية قصوى. إن الأمر يتطلب أكثر من مجرد متابعة روتينية؛ إنه يستدعي تدخلاً استباقياً وحازماً لحماية أعضاء اللجان الفنية، وتوفير غطاء قانوني وأمني لهم، ومراجعة أي تقييمات أو تسويات تثير الشبهات، خاصة تلك التي تنتهي إلى نتائج "صفرية" في ملفات كانت تُصنف سابقاً على أنها كوارث مالية.
إن الملفات والوثائق التي تثبت هذه الأضرار ما زالت محفوظة في أدراج المؤسسات، وهي أمانة في أعناق الجميع. واليوم، تقف الدولة أمام اختبار حقيقي لإرادتها في بناء مستقبل يقوم على العدل والشفافية وسيادة القانون، وضمان أن يكون المال العام مُلكاً للشعب وحده، لا غنيمة للمتلاعبين وأصحاب النفوذ.