أثارت أول جلسة محاكمة علنية للمتهمين بارتكاب انتهاكات وجرائم في الساحل السوري، والتي عقدتها وزارة العدل السورية في 18 تشرين الثاني الحالي، تساؤلات حول توقيت هذه المحاكمات وأولويتها مقارنة بجرائم أخرى. وقد رصدت عنب بلدي استغراب الرأي العام على مواقع التواصل الاجتماعي، خاصةً حول البدء بمحاكمة المتهمين بانتهاكات الساحل قبل محاسبة رموز نظام الأسد السابق.
تشير "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" إلى وجود قائمة تضم حوالي 16 ألف شخص متورط في جرائم وانتهاكات بحق السوريين، من بينهم أكثر من ستة آلاف من القوات الرسمية وأكثر من تسعة آلاف من القوات الرديفة. وتؤكد الشبكة على ضرورة محاسبة جميع المتورطين، بمن فيهم ممثلون وفنانون وكتاب وسياسيون ساهموا في تعزيز جرائم النظام.
لماذا بدأت من الساحل؟
يوضح الحقوقي المتخصص في العدالة الانتقالية، منصور العمري، أن السلطة الحاكمة الحالية هي نفسها التي كانت قائمة وقت وقوع الجرائم في الساحل، بينما ستجري محاكمات جرائم عهد الأسد المخلوع تحت سلطة مختلفة. ويضيف العمري أنه لا يمكن البدء بمحاكمة رموز النظام السابق قبل صدور قانون العدالة الانتقالية أو تشكيل محكمة هجينة تعتمد القانونين الدولي والوطني.
ويرى العمري أن المحاكمات المتعلقة بانتهاكات الساحل يمكن اعتبارها جزءًا من مسار العدالة الانتقالية، الذي لا يشترط سقوط النظام الحاكم، بل يتطلب إرادة حقيقية لتطبيقه بعد وقوع انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان والقانون الدولي. ويضيف نورس العبد الله، الباحث في مركز "الحوار السوري" وخبير العدالة الانتقالية، أن هذه المحاكمات تؤسس لسيادة القانون في سوريا وتنهي الإفلات من العقاب.
ويشير العبد الله إلى بعدين وراء إطلاق هذه المحاكمات: بعد عملي وإجرائي يتعلق بإمكانية تطبيقها على أرض الواقع، وبعد سياسي مرتبط بالضغط والمتابعة الدولية للحكومة الانتقالية.
خطر أن تشكل هذه المحاكمات "جرحًا إضافيًا"
يحذر نورس العبد الله من أن هذه المحاكمات قد تسبب ألمًا إضافيًا لضحايا نظام الأسد وضحايا الثورة السورية، ما يستدعي جهدًا جماعيًا من الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية، والهيئة الوطنية للمفقودين، ووزارتي العدل والداخلية، لتقديم رسائل رمزية حول التحضير الجدي للمساءلة والسعي إلى حل الإشكاليات عبر مسارات غير قضائية.
ويعتقد الدكتور في القانون العام، أحمد قربي، أن طمأنة ذوي الضحايا تتطلب الإسراع في طرح مسودة قانون العدالة الانتقالية، واتخاذ إجراءات احترازية مثل إصدار مذكرات توقيف والحجز على أموال المتورطين، بالإضافة إلى إطلاع الرأي العام على تطورات مسار العدالة الانتقالية.
هل تأخرت "العدالة الانتقالية"؟
يؤكد منصور العمري أن محاكمات جرائم عهد الأسد المخلوع تتطلب إطارًا قانونيًا خاصًا ويجري التحضير لها على قدم وساق، مع مراعاة الاعتبارات القانونية والاجتماعية والسياسية والمالية. وقد أصدر الرئيس السوري في المرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، المرسوم رقم "149" لعام 2025 القاضي بتشكيل الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية في 28 آب الماضي.
وفي 2 تشرين الثاني الحالي، أوضح عضو الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية، أحمد حزرومة، أن الهيئة وضعت ستة مسارات أساسية للعمل عليها، تشمل كشف الحقيقة، والعدالة والمساءلة، وجبر الضرر، وضمان عدم التكرار، وتخليد الذكرى والذاكرة الوطنية، وأمل السوريين في بناء سوريا الجديدة من خلال السلم الأهلي.
ويرى منصور العمري أن العدالة الانتقالية في سوريا بدأت قبل تشكيل الهيئة، وأن الحكومة اتخذت خطوات مهمة في هذا المسار، مثل حل الأجهزة الأمنية والجيش السابقين، وإصلاح الجهاز القضائي، وإلغاء إجراءات منع السفر، وتجميد المرسوم "66".
ويشير أحمد حزرومة إلى أن الهيئة تعمل حاليًا على وضع خطة استراتيجية من خلال الاستماع إلى الناس والضحايا الحقيقيين في مختلف المحافظات السورية، لفهم التحديات والاحتياجات المختلفة.
حاولت عنب بلدي التواصل مع الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية للحديث عن أين وصل قانون العدالة الانتقالية، إلا أنها لم تحصل على رد حتى لحظة تحرير هذا التقرير.