الخميس, 28 أغسطس 2025 12:43 AM

من المنفى إلى السيادة الغذائية: قصة عودة مزارعين سوريين لإحياء أرضهم

من المنفى إلى السيادة الغذائية: قصة عودة مزارعين سوريين لإحياء أرضهم

بعد سنوات قضوها في المنفى، عاد المزارعان بلال وآسية أبو صالح إلى قريتهم ليجدوا منزلهم منهوبًا وأرضهم قاحلة. لكن الإصرار على إعادة بناء سوريا من أجل أطفالهم وتحقيق الاكتفاء الذاتي الغذائي كان الدافع وراء عزيمتهم.

بلال أبو صالح، البالغ من العمر 43 عامًا، مزارع مهتم بالزراعة العضوية ومنتج للبذور البلدية، وقف في مزرعته بقرية البويضة الصغيرة في ريف حلب الجنوبي، متأملًا بئره الجاف. المياه موجودة، لكن استخراجها مكلف للغاية بعد أن دمر رجال بشار الأسد المضخة، كما يقول. يعتمد بلال حاليًا على آبار أخرى تضخ مياهًا مالحة لا تكفي سوى لساعة واحدة يوميًا.

تمتد الأراضي الصفراء المتشققة حول مزرعة بلال، وصولًا إلى تلة كانت فيما مضى مليئة بالأشجار، لكنها اليوم تواجه نفس مصير عائلة أبو صالح: أسوأ موجة جفاف تشهدها سوريا. ويشير بلال بحسرة إلى التلة قائلاً: "كانت هذه التلة مليئة بالأشجار، بما في ذلك بساتين الزيتون. الآن، لم يتبق سوى القليل منها في الوادي، بينما قُطع الباقي لاستخدامه حطباً للتدفئة وبيعه".

هذا المشهد يعكس حال البلاد، ويشبه منزل بلال وزوجته آسية، البالغة من العمر 37 عامًا، اللذين عادا إليه في كانون الثاني/ يناير بعد 12 عامًا من النزوح بسبب الحرب. ويقول بلال: "عندما نزحنا، تركنا كل شيء خلفنا، وكل ما تركناه تم تخريبه". وكحال كثيرين غيرهم، عادوا إلى منزل لم يبق من أثاثه شيء، إذ لم يترك رجال النظام البائد سوى بعض النوافذ والأبواب.

نشأ بلال في البويضة الصغيرة، وعمل في صناعة الطوب الطيني قبل أن يتعلم الزراعة البيئية في لبنان خلال فترة النزوح. أعجب بلال بهذا النوع من الزراعة الذي يجمع بين الممارسات المستدامة والعناية بالبيئة، وقرر فور عودته مع آسية زراعة بذور لتأسيس مزرعة.

يعمل بلال وآسية وفق الزراعة البيئية المستدامة والعضوية، وينتجان علاجات طبيعية، ويسمدان أرضهما بسماد الأبقار والأغنام للحفاظ على الطبيعة، ولا يستخدمان أي مواد كيميائية إطلاقاً. ورغم أن نظام الري بالتنقيط يعتمد على كمية ضئيلة من المياه، إلا أن توفيرها لا يزال صعبًا بسبب غياب الكهرباء وشح المياه.

تشير التقارير إلى أن سوريا شهدت في شتاء العام الماضي هطول أمطار أقل مقارنة بالسنوات السابقة، في منطقة ترتفع حرارتها بوتيرة تعادل ضعف المعدل في باقي أنحاء العالم. وتبلغ خسائر هذا الموسم نحو كبير، في وقت يعاني فيه حوالي من انعدام الأمن الغذائي الحاد. وتواجه الحكومة السورية المؤقتة كبيرًا، في الوقت الذي تلتهم النيران عشرات آلاف الهكتارات من غابات الساحل السوري.

عندما غادر بلال وآسية وأطفالهما من منزلهم في ريف حلب الشمالي مطلع عام 2013 هرباً من الحرب، وجدوا في لبنان ملاذاً لهم. استقرت العائلة في سهل البقاع، حيث واصل بلال العمل في مجال البناء. ولاحقاً عمل مع منظمة ""، وهي جمعية تعنى بمجال الزراعة العضوية، حيث تعلم تقنيات الزراعة البيئية والبذور العضوية.

في عام 2023، أصبحت الحياة صعبة مادياً بالنسبة للعائلة في لبنان، فقرروا العودة إلى سوريا. لكن العودة إلى البويضة الصغيرة لم تكن خياراً، لذا عادوا إلى شمال غرب سوريا، الخاضعة لسيطرة فصائل معارضة مسلّحة، من بينها هيئة تحرير الشام. ولتفادي الاعتقال على الحدود، كان عليهما العودة مع أطفالهما عبر ، بالاعتماد على مهربين.

في آب/ أغسطس 2023، انطلق بلال في "رحلة الموت" التي استغرقت خمسة أيام حتى وصل إلى إدلب. وبعدها بعدة أيام، لحقت به آسية وأربعة من أولادهما الستة. بعد أن اجتمع شمل العائلة في إدلب، استقروا لمدة عشرة أشهر تقريباً في مخيم بمدينة سرمدا، ثم انتقلوا إلى مدينة جنديرس التابعة لعفرين بريف حلب، وهناك أنشأ أول مزرعة للبذور البلدية.

في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024، غيّرت عملية "ردع العدوان"، التي أطلقتها المعارضة بقيادة هيئة تحرير الشام موازين القوى، وعاد أكثر من نازحون داخلياً ولاجئون في المنفى إلى منازلهم. كانت فرصة لعودة عائلة بلال وآسية إلى منزلهم في البويضة الصغيرة.

ورغم مرور عدة أشهر، ما زال أمامهم رحلة طويلة، لأن الفصل الجديد من تاريخ سوريا يشهد حالة من عدم اليقين، والعودة محفوفة بالصعوبات. وفي بلد بلغت نسبة الدمار في بنيته التحتية ، كانت المناطق الريفية من أكثر المناطق تضرراً.

يواصل بلال وآسية يوماً بعد يوم إعادة بناء حياتهما ويحاولان كسب العيش من الأرض. ورغم الصعوبات، لا يشعران بأي ندم على عودتهما. وبالنسبة لبلال، لا يوجد مكان آخر يعود إليه، قائلاً: "كان علينا أن نعود [إلى هنا]. نحن بحاجة إلى إعادة بنائه لأنفسنا، أو على الأقل من أجل أطفالنا".

رغم الجفاف، يصر بلال وآسية على البقاء وإحداث الفارق، فمنذ عودتهما إلى قريتهما، زرع الزوجان 500 ألف شتلة. ويسعى بلال إلى نشر بذوره العضوية بين المزارعين المحليين الآخرين، بحيث يتمكنون أيضاً من البدء في زراعة الفواكه والخضروات البلدية المقاومة، ومن ثم إعادة إنتاج البذور بأنفسهم.

ويرى بلال أن البذور العضوية ضرورية لاستعادة الإرث الزراعي لسوريا، قائلاً: "نهدف إلى تحقيق السيادة الغذائية والاكتفاء الذاتي، لا سيما الزراعة العضوية المستقلة عن شركات بذور F1".

بينما يتمثل هدف بلال في نشر الفكرة وتحقيق مصدر دخل من مشروعه في آن واحد، زرع هذا العام خضروات "من أجل البقاء"، مدركاً أن الجفاف والظروف الاقتصادية المتردية سيجعلان تحقيق أي ربح أمراً مستبعداً.

يثق بلال بالمستقبل، ويعتقد أن مشروعه يحتاج فقط إلى بعض الوقت. وهو اليوم يحاول ترسيخ التعاون الزراعي في منطقته. وقال مبتسماً: "لدينا مثل يقول: الحمل إذا تقاسمه الناس خفّ".

ويختتم بلال حديثه قائلاً: "يهمني أن أرى هذا البلد يزدهر من جديد، ليس بالضرورة من أجلي، بل من أجل أطفالنا. نريد بيئة صحية. إذا لم نُعِد نحن بناء هذا البلد، فمن سيفعل؟".

مشاركة المقال: