ليست زيارة رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، إلى الولايات المتحدة مجرد زيارة عادية، أو إجراء روتيني في إطار العلاقات الثنائية المعهودة. بل هي بالأحرى، خطوة تمهيدية ضرورية لوضع الأسس لصفقة إقليمية واسعة النطاق، تتجاوز حدود الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، وتسعى إلى إعادة صياغة المشهد الأمني والسياسي في المنطقة.
تأتي هذه الزيارة، المقرر لها السابع من الشهر الحالي، في ظل ما تراه كل من أميركا وإسرائيل تحولاً استراتيجياً في موازين القوى الإقليمية، وفي خضم مشاريع يتم التخطيط لها في الخفاء، ولا تقتصر على إنهاء الحرب في قطاع غزة أو توقيع اتفاق تطبيع مع دولة عربية أخرى، بل تتعداها إلى تحقيق تسوية أشمل وأكثر طموحاً، تشمل إنهاء حالة العداء بين سوريا وإسرائيل، واستكمال مسيرة «السلام» بين إسرائيل ودول الخليج.
تعتبر الولايات المتحدة وإسرائيل أن البيئة الإقليمية الحالية، مختلفة تماماً عما كانت عليه قبل أشهر، وأنها مواتية لتحقيق هذا المشروع، وذلك في ظل ضعف إيراني مؤقت عقب الضربة العسكرية الأميركية – الإسرائيلية المشتركة ضد طهران، وتغيّر في تركيبة الحكم في سوريا، حيث يبدي النظام الجديد برئاسة أحمد الشرع استعداده للتفاوض، وإن كان ذلك مقابل ثمن باهظ. إضافة إلى ذلك، يبدو أن الحملة العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة قد وصلت إلى نهايتها، مع اعتماد إسرائيل على قدرتها الآن على فرض شروطها على «حماس».
الأمر الأكثر إثارة للاهتمام هو التحول الكبير في الاهتمام الإسرائيلي والأميركي نحو سوريا، حيث ترى إدارة دونالد ترامب أن هناك فرصة الآن لتحقيق تسوية تاريخية معها، تخرج هضبة الجولان من دائرة الخلاف السياسي إلى الأبد، وتلحق هذا البلد بالترتيب السياسي والأمني التابع للولايات المتحدة في المنطقة، خاصة أن الشرع جرى ترويضه لاستقبال كل الشروط كما هي، بلا تحفظات.
الحديث هنا لا يدور حول «تطبيع شكلي»، بل بناء علاقة استراتيجية طويلة الأمد، عبر فرض اتفاقات أمنية وسياسية تعيد رسم الحدود الشمالية، بما يتوافق تماماً مع المصالح الإسرائيلية والحيّز الجغرافي الإحلالي الذي سيتوسّع بإقرار من سوريا نفسها. ويتمثل الهدف الأول في تأمين حزام أمني عميق يمتد من الحدود السورية مع فلسطين المحتلة وحتى العاصمة دمشق، «يسمح بهذا ويمنع ذاك»، بالتوازي مع حزام سياسي أعمق يتيح السيطرة على طبيعة النظام السياسي القادم في سوريا، بما يؤدي إلى تموضعه إلى جانب إسرائيل ضد أي كيانات معادية لها داخل البلاد أو حتى في خارجها.
بمعنى آخر، تريد إسرائيل ضمان أن تكون سوريا حارساً لحدودها ولأمنها، ليس انطلاقاً من المنطقة الأمنية العازلة فقط، بل ربطاً أيضاً بجوهر طبيعة الكيان وعقيدته الأمنية والسياسية.
أما الهدف الثاني، والأكثر جدلية، فهو إنهاء قضية هضبة الجولان بشكل كامل وإلى الأبد، إذ ترى إسرائيل أن اللحظة الحالية هي الأنسب لإجبار النظام السوري الجديد على الاعتراف رسمياً بأن الجولان أرض إسرائيلية، وأنه لم تعد هناك من سيادة سورية عليه، بما يؤدي إلى شرعنة الوضع القائم دولياً، بل ومنح إسرائيل أدوات قانونية وسياسية لتعزيز وجودها هناك بشكل مستدام، حتى لو تغيرت الأنظمة مستقبلاً في سوريا.
تستند إسرائيل في تقديرها ذاك إلى عنصرين أساسيين: أولهما، أن الشرع قد لا يملك الكثير من الوقت ولا الضمانات الداخلية، وبالتالي يمكن دفعه إلى تقديم تنازلات كبيرة مقابل دعم خارجي يعزز شرعيته؛ وثانيهما، أن هذه اللحظة قد لا تتكرر، فالنظام السوري ما يزال في طور التشكل، ويمكن لإسرائيل أن تلعب دوراً محورياً في توجيه هندسته السياسية المستقبلية، وإن عبْر الجانب الأميركي، وهو أمر لن يكون متاحاً إذا استقر الوضع لاحقاً من دون تدخل إسرائيلي مباشر.
وعليه، فإن الاتفاق الذي يتم التوصل إليه الآن يمكن استخدامه كأداة ضغط مستقبلية، سواء عبر إلزام السلطات الجديدة به باعتباره اتفاقاً قانونياً ملزماً، أو عبر تعزيز الواقع الذي تشكل بإقرار الدولة السورية، بحيث يصبح من الصعب التراجع عنه، حتى وإن تغير النظام الحالي. لكن تبقى الحرب في قطاع غزة عاملاً معطلاً لأي توسع حقيقي في التسوية الإقليمية، إذ رغم أن وضع سوريا الجديدة يسمح بالرهان على إمكانية التطبيع معها حتى في ظل استمرار الحرب، فإن التطبيع والحال هذه محرج جدّاً لدول مثل السعودية، وهو ما يفسر اندفاع الإدارة الأميركية إلى الضغط لإنهاء الحرب.
على أن الحل ليس مرتبطاً بالرغبة الأميركية فقط، بل بالوضع داخل الحكومة الإسرائيلية نفسها، التي تضم أصواتاً ترى في مواصلة القتال وسيلة للحفاظ على زخم المواجهة، وتحقيق أجندة خاصة بأيديولوجيات متطرفة جدّاً. ومع ذلك، فإن قدرة أقصى اليمين على تعطيل الصفقات وفرملة نتنياهو لم تَعُد كما كانت عليه، حيث يبدو أن التطورات والاستحقاقات تجاوزتها، خصوصاً مع ظهور مصالح إسرائيلية مغايرة، قد تكون أكثر أهمية واستدامة.
ومن هنا، تأتي زيارة نتنياهو إلى واشنطن لمحاولة حل هذه المعادلة الصعبة، ما يجعل منها اختباراً حقيقياً لقدرة البلدين على تحويل الزخم المحقق في المنطقة إلى إنجاز سياسي طويل الأمد، علماً أن ما يجري الحديث عنه اليوم ليس صفقة صغيرة، ولا مجرد تعديل في السياسة الخارجية، بل محاولة لإعادة تكوين عميقة للعلاقات في المنطقة، بإغراء العائد السياسي والأمني المنتظر من إيقاف الحرب في غزة.