الأربعاء, 3 سبتمبر 2025 02:26 AM

وحدات الظل: مهام سرية وتأثيرات عالمية لوحدات النخبة الغامضة

وحدات الظل: مهام سرية وتأثيرات عالمية لوحدات النخبة الغامضة

في منطقة خلابة بشمال اليونان، وتحديدًا في مقاطعة خالكيذيكي بالقرب من جبل آثوس، يقع فندق ريفي بسيط ذو ثلاثة طوابق، محاط بحديقة جميلة ومسبح وحقول واسعة، في منظر طبيعي ساحر. لكن وراء هذا المشهد الهادئ، تخفي قصة مختلفة تمامًا. وفقًا لتقارير استخباراتية، لم يكن الفندق مجرد مشروع تقاعدي يديره زوجان مهاجران، بل كان بمثابة محطة لوجستية متقدمة للوحدة 29155 التابعة لجهاز الاستخبارات العسكرية الروسية (GRU)، والمتخصصة في عمليات الاغتيال والتخريب عبر الحدود.

على مدار ثلاثة عقود، لعب الزوجان إيلينا ونيكولاي سابوزنيكوف دور الغطاء الهادئ لعمليات سرية امتدت إلى عواصم أوروبية عدة، من تجنيد العملاء إلى توفير الدعم اللوجستي، كجزء من واحدة من أطول مهام التمويه في تاريخ وحدات الظل الروسية.

الوحدة 29155.. بصمات غامضة عبر أوروبا

ترتبط هذه الوحدة بسلسلة من العمليات النوعية ضد خصوم موسكو. فبحسب تحقيقات صحفية موثوقة – رغم النفي الرسمي – يُشتبه في تورطها في هجمات بأسلحة طاقة موجهة استهدفت دبلوماسيين أميركيين في هافانا عام 2016. كما ارتبط اسمها بمحاولة انقلاب فاشلة في الجبل الأسود لعرقلة انضمامه إلى الناتو، وبنشاط غير مباشر خلال احتجاجات استقلال كتالونيا عام 2017.

لكن اللحظة الحاسمة كانت في عام 2018، عندما اتُهم عناصر منها بمحاولة اغتيال الجاسوس الروسي السابق سيرغي سكريبال وابنته في بريطانيا، في واحدة من أكثر عمليات الظل الروسية جرأة وإثارة للجدل.

هذه الوحدة ليست فريدة، بل هي جزء من اتجاه متزايد عالميًا: وحدات صغيرة مدربة على الجمع بين المهارات العسكرية والاستخباراتية، تعمل في مناطق رمادية حيث يمكن للدول إنكار أي صلة بها. إنها أدوات صامتة تغير موازين القوى دون خوض حروب تقليدية، من خلال اغتيالات دقيقة أو تخريب مدروس أو عمليات نفسية موجهة.

في هذا التقرير، نسلط الضوء على أربع وحدات ظل كبرى تركت بصماتها الخاصة: أميركية، بريطانية، صينية، وروسية.

ديفغرو الأميركية.. من فشل طهران إلى اغتيال بن لادن

في فجر 2 مايو/أيار 2011، اخترقت مروحيات بلاك هوك سماء مدينة أبوت آباد الباكستانية، في عملية سرية انتهت بتصفية أسامة بن لادن بعد مطاردة استمرت سنوات. لم تستغرق العملية أكثر من 40 دقيقة، لكنها وضعت وحدة ديفغرو (DEVGRU) – المعروفة شعبيًا باسم “فريق سيل السادس” – في دائرة الضوء العالمية.

تأسست هذه الوحدة في أوائل الثمانينيات على يد الضابط ريتشارد مارسينكو بعد فشل عملية “مخلب النسر” لتحرير الرهائن الأميركيين في طهران عام 1980. كان الهدف هو إنشاء قوة تدخل سريع لمكافحة الإرهاب البحري وإنقاذ الرهائن، تعمل في بيئات معقدة وتتمتع بمرونة عالية.

يتم اختيار عناصر ديفغرو من بين أفضل مقاتلي البحرية الخاصة الأميركية (Navy SEALs) الذين لديهم خبرة لا تقل عن خمس سنوات. يخضعون لاختبارات قاسية في “الفريق الأخضر”، ولا ينجح فيها سوى نصفهم تقريبًا. يشمل التدريب القتال القريب، القنص، تفكيك المتفجرات، جمع المعلومات، تعلم اللغات الأجنبية، والانغماس الثقافي.

تنقسم الوحدة إلى أسراب متخصصة: الأحمر: للهجوم المباشر. الأزرق: للعمليات البحرية والغوص. الذهبي: للاستطلاع والمراقبة. الفضي: للمهام المتغيرة. الأسود: للعمليات الاستخبارية فائقة السرية. (ويُعتقد بوجود سرب رمادي للدعم اللوجستي البحري).

بعد هجمات 11 سبتمبر، توسعت مهام الوحدة لتصبح رأس الحربة في “الحرب على الإرهاب”، لكنها دفعت ثمنًا باهظًا بخسائر بشرية ونفسية. كما واجهت اتهامات بارتكاب تجاوزات في أفغانستان والعراق، وسط غياب رقابة فعالة، مما أثار جدلاً حول حدود عملها وأخلاقياته.

جياولونغ الصينية.. “تنين البحر” في خدمة بكين

في ذروة الحرب اليمنية عام 2015، ظهرت فرقاطة صينية بالقرب من ميناء عدن. وعلى متنها كانت وحدة جياولونغ، أو “تنين البحر”، التي نفذت عملية إجلاء ناجحة شملت أكثر من 800 شخص، بينهم 200 أجنبي من عشر جنسيات. شكلت العملية إعلانًا عن ولادة ذراع بحرية جديدة لبكين، قادرة على حماية مواطنيها واستثماراتها حول العالم.

لاحقًا، تحول الإنجاز إلى فيلم دعائي ضخم بعنوان عملية البحر الأحمر (2018)، قدم “جياولونغ” كبطل صامت يعكس صعود الصين كقوة عالمية. تأسست الوحدة في أوائل الألفية مع توسع مبادرة “الحزام والطريق”، لتكون قوة مرنة تتحرك بسرعة دون الحاجة إلى قواعد عسكرية دائمة.

يخضع عناصرها لتدريب يمتد عامًا كاملاً، ولا يجتازه سوى نصف المرشحين. يشمل التدريب القفز المظلي، الغوص، القتال القريب، الرماية في ظروف متقلبة، والعمليات الليلية. على الرغم من نخبوية “تنين البحر”، يظل نطاق عمله محدودًا مقارنة بالقوات الأميركية أو البريطانية. فهو يركز على الإجلاء، مكافحة الإرهاب، والاستطلاع، دون الانخراط في الحروب غير التقليدية مثل إدارة الميليشيات أو دعم الحركات المسلحة.

ومع ذلك، يعتقد خبراء أن دوره سيتعاظم في حال نشوب صراع حول تايوان، مع تطوير الصين منصات بحرية وجوية متقدمة تدعم عملياته.

ساس البريطانية.. ولادة أسطورة من رمال الصحراء

خلال الحرب العالمية الثانية، خطرت للملازم الأسكتلندي ديفيد ستيرلينغ فكرة بدت أقرب إلى الجنون: إنشاء قوة صغيرة تنفذ غارات خلف خطوط العدو في صحراء شمال أفريقيا. هكذا ولدت وحدة ساس (SAS) عام 1941.

على الرغم من فشل المهمة الأولى ومقتل معظم عناصرها، سرعان ما اكتسبت الوحدة خبرة كبيرة من خلال تدمير المطارات والمراكز اللوجستية لقوات المحور، مما دفع هتلر إلى إصدار أوامر بإعدام أي عنصر من ساس يقع أسيرًا. بعد الحرب، تم حل الوحدة مؤقتًا قبل أن تعود عام 1947 لتصبح أداة بريطانية سرية في صراعات ما بعد الاستعمار.

من أدغال إندونيسيا إلى شوارع بلفاست في أيرلندا الشمالية، تركت ساس بصمة قوية من خلال عمليات التخفي، الكمائن الدقيقة، والرصد الاستخباراتي طويل الأمد. يعتبر برنامج الانتقاء الخاص بها من الأصعب عالميًا، حيث تقل نسبة النجاح عن 10٪. يشمل “اختبار التلال” في ويلز، القفز المظلي، الغوص القتالي، القنص، وجمع المعلومات في بيئات معادية، مع التركيز على المرونة واتخاذ القرار الفردي بما يتماشى مع فلسفة “اقتصاد القوة”.

فيمبيل الروسية.. اليد التي لا تترك بصمات

عام 1981، ومع تصاعد الحرب الباردة، أنشأ الاتحاد السوفياتي وحدة فيمبيل (Vympel) من دمج وحدتي “زينيث” و”كاسكاد”. صُممت لمهام الاغتيال والتخريب خلف خطوط العدو، وحماية المنشآت الإستراتيجية، وتنفيذ عمليات مكافحة الإرهاب خارج الحدود.

بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، تفككت الوحدة لفترة قصيرة، لكنها عادت عام 1995 تحت جناح جهاز الأمن الفدرالي الروسي (FSB). اليوم، تعتبر فيمبيل من أكثر الوحدات نخبوية، حيث يمتد تدريبها إلى خمس سنوات ويشمل القتال القريب، التسلل الجوي والبحري، الطب الميداني، تفكيك المتفجرات، وتسلق الجبال.

تتسلح بأسلحة متقدمة مثل بنادق فينتوريز الصامتة، دروع قادرة على التشويش البصري، وطائرات مسيرة صغيرة للاختراق والاستطلاع. وعلى الرغم من تصنيفها كقوة داخلية، ارتبط اسمها بعمليات خارجية، أبرزها القبض على القائد الشيشاني سلمان رادوييف، واغتيال المعارض زليمخان خانغوشفيلي في برلين عام 2019.

تجسد فيمبيل فلسفة الأمن الروسي: الغموض والإنكار، مع القدرة على الضرب تحت مستوى الحرب، دون ترك أدلة مباشرة تربط الكرملين بها.

فلسفات مختلفة.. غاية واحدة

على الرغم من التشابه في التدريب النخبوي والتسليح المتقدم، فإن وحدات الظل تعكس فلسفات دولها: الولايات المتحدة: التدخل العسكري كأداة لحماية المصالح والهيبة، ضمن غطاء قانوني فضفاض. بريطانيا: المرونة والتخفي و”اقتصاد القوة”، مع قدر من الرقابة الإعلامية والرأي العام. الصين: صعود هادئ تحت شعار “التدخل المسؤول”، وتوظيف القوة كرمز دعائي لصورة الجيش المنضبط. روسيا: الغموض المقصود، حيث تتمثل القوة في القدرة على الإنكار وترك اليد بلا بصمات.

في النهاية، تعكس هذه الوحدات كيف تدار حروب الظل في عالم اليوم: بين الشرعنة القانونية واللعب في المناطق الرمادية، وبين العمل العلني والإنكار المنظم، في سباق مستمر لإعادة تعريف القوة غير المعلنة.

الجزيرة

مشاركة المقال: