يجلس “أبو محمد” (66 عامًا) في زاوية منزله البسيط، منهمكًا في تحريك الحصى الصغيرة بين الحفر الخشبية. “صديقتي الوفية في أيام وحدتي”، هكذا يصف “أبو محمد” لعبة المنقلة التي باتت ملاذه الوحيد للأنس والتسلية، بعد أن هجره صخب الحياة. تُعدّ المنقلة واحدة من أقدم الألعاب الشعبية التي ما زالت صامدة في وجه الزمن، رغم تراجع حضورها، وقد اختلف الباحثون حول أصلها. فبينما يُرجعها بعض الباحثين إلى تركيا، ينسبها آخرون إلى إفريقيا أو بلاد الشام، ومنها الأردن وسوريا.
هذا التعدد الجغرافي والإرثي للعبة دفع منظمة “يونسكو” إلى تصنيفها ضمن قائمة التراث الثقافي العالمي. وتشير بعض المصادر التاريخية إلى أن لعبة المنقلة تعود إلى القرن السادس الميلادي، حيث عُثر على دلائل أثرية تثبت ممارستها في مجتمعات إفريقية زراعية، أما اسمها، فيُعتقد أنه مشتق من اللغة العربية، نظرًا لاعتمادها على “نقل” الحصى من حفرة إلى أخرى في اللوح الخشبي.
ذاكرة حية
لا تزال المنقلة حاضرة في بعض المناطق السورية، لا سيما في الجزيرة السورية والقلمون بريف دمشق، حيث يتناقلها كبار السن كجزء من إرثهم الثقافي، وغالبًا ما يُحتفظ بها في ديوان شيخ العشيرة أو القبيلة، ليس كلعبة فحسب، بل كرمز حي للتراث الشعبي المتجذر. في أمسيات الصيف، يُخرج “أبو محمد” طاولته الخشبية القديمة إلى باحة البيت، يجلس مع جيرانه وتبدأ المباراة بابتسامة، ثم تسود الألفة، “هذه اللعبة لا تُلعب لتُربح، بل لتُحَب”، يقولها ضاحكًا بينما يشرح لأطفال الحي كيف توزّع الحصى في الحفر.
كيف تُلعب المنقلة
تتكون المنقلة من لوح خشبي فيه صفّان من الحفر الصغيرة، بسبع حفر في كل صف، بالإضافة إلى حفرتين كبيرتين تُعرفان بـ”الخزنتين”. يبدأ كل لاعب بسبع حبات في كل حفرة من صفه، يقوم بتحريك الحصى وتوزيعها واحدة تلو الأخرى، وفي حال انتهت الحبة الأخيرة في حفرة تحتوي مسبقًا على حصى، يعيد اللعب، والهدف جمع أكبر عدد ممكن في “الخزنة” الخاصة به. “المنقلة ليست مجرد لعبة، بل هي جزء من ذكرياتنا وتحمل لوحة الخشب هذه جزءًا من أرواحنا”، يقول “أبو محمد” وهو يحرك الحجر إلى “خزنته” ويبتسم.