الثلاثاء, 17 يونيو 2025 05:03 PM

ما بعد قصف تل أبيب: كيف أعاد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي توحيد البوصلة وتجاوز الطائفية؟

ما بعد قصف تل أبيب: كيف أعاد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي توحيد البوصلة وتجاوز الطائفية؟

في زمن تتسارع فيه الضربات وتتصارع فيه الروايات، لا تبدو الحرب بين إيران وإسرائيل مجرد مواجهة إقليمية تقليدية. لقد تحوّلت ـــ بفضل تفاعل الضحايا والمشاهدين ــ إلى لحظة كاشفة لمعادلات الإعلام والموقف.

فقد انكشفت مجدداً هشاشة الخطاب الطائفي، وظهر على السطح سؤال قديم جديد: من يقف حقاً مع فلسطين؟ ومن يتخفّى وراء سرديات مذهبية للتواطؤ مع عدوها؟

طفلةٌ فلسطينية تبكي، لكن هذه المرة من الفرح، وهي تصرخ «يا رب سدّد رميهم». شبابُ مُخيمات غزة يحتفلون في الهواء الطلق، مرددين بصوت عالٍ «اضرب والريح تصيح»، فيما المراهقة حبيبة من الضفة الغربية تسخر مع والدها من القبة الحديدية، وهي تراقب الصواريخ الإيرانية تهبط على الكيان العبري، وهي تضع طنجرةً معدنية فوق رأسها.

وأخيراً، ظهر الطفل شهاب الدين في فيديو وهو يعبّر عن فرحته بأن أحد الصواريخ الإيرانية التي تستهدف تل أبيب تحمل اسمه. الفيديو الذي نشره أحد أقاربه على منصة إكس تداوله الآلاف، وحقق أكثر من 600 ألف مشاهدة في ساعات.

وكتب ابن خاله الصحافي رضوان معمر: «كلانا قتلت إسرائيل عائلاتنا، في ضربة واحدة وصاروخ صامت، نجونا بأعجوبة… لكن الفرق بيني وبينه أنه لم يبقَ له أحد. يعيش معي منذ خمسة أشهر، نعيش كأب وأخ وأم وأصدقاء… لا ينسى كيف قتلت إسرائيل أمه وأباه وأخته سارة، رأيته منذ مدة يبكي لأنه مشتاق لها».

هذا المشهد الإنساني الصادق لا يمكن تفكيكه وفقاً للقوالب الطائفية المعتادة. فهو يكشف، كما كتب أحد المعلقين، أن «الدم لا يسأل عن المذهب، بل عمّن أنقذه ومن قتله».

تفاعُل شهاب مع الدعم الإيراني لفلسطين لم يكن نتاج دعاية، بل تعبيراً طفولياً عن عدالةٍ يراها ضرورية.

هكذا، تتحول لحظات فردية وجماعية تملأ منصات التواصل الاجتماعي، لحظات موجعة وبريئة، إلى شهادة على هشاشة الروايات التحريضية، وعلى قدرة الضحايا – لا النخب وحدها – على إنتاج خطاب بديل، يُعيد تعريف من يقف فعلاً مع فلسطين ومن يخذلها، بصرف النظر عن الهوية الطائفية.

هذه اللحظات تتقاطع مع ما يعبّر عنه بعض المشاهير اليوم، بأنّ معيار الموقف يجب أن يكون الموقف من فلسطين، لا الهوية الطائفية للفاعل.

منذ اندلاع الحرب الأخيرة على غزة وما تلاها من تصعيد إقليمي، برز الإعلامي باسم يوسف كأحد الأصوات الأكثر إثارة للانتباه على مواقع التواصل، ليس فقط لحدة خطابه بل لموقفه الواضح في مواجهة العدو الإسرائيلي رغم الهجوم والتشكيك الذي تعرّض له بعد ظهوره في أحد برامج المواهب على إحدى القنوات الخليجية خلال استمرار الإبادة ضد غزة.

وقد تبين أنها لم تمنعه من مواصلة موقفه الداعم لفلسطين، وكانت آخر تغريداته هو نشره مقطعاً لقصف الكيان مرفقاً بتعليق: «كنت أستمع سابقاً إلى السيمفونية الخامسة لبيتهوفن، سيمفونية القدر، لكن هذه أول مرة أراها». هذه التغريدة جاءت تعليقاً على فيديو يظهر الصواريخ الإيرانية وهي تضرب الأراضي المحتلة، في إشارة إلى «العدالة الإلهية» وتدخّل القدر الذي جعل «إسرائيل» تتجرّع من الكأس نفسها التي جرّعتها للفلسطينيين خلال حرب الإبادة.

ولم يتوقف باسم عند تناوله الساخر للأخبار، بل النقد الوجودي العميق. في منشور على فايسبوك أثار تفاعلاً واسعاً (28 ألف تفاعل خلال ساعات)، كتب باسم: «من أيام 67 مروراً بالعراق لحد اللي بيحصل السنتين اللي احنا فيهم دول… ما فيش مرة حسينا بأمل عشان انتصار… إلا و بعد كده حصل هزيمة مروعة مفاجأة وانهيار كل شيء بسرعة مرعبة. يا رب أكون غلطان».

هذا المنشور، البعيد عن السخرية، يلخص إحساساً جماعياً بالخوف من الفرح، والقلق من تكرار الخيبات، وهو ما جعل جمهوره يتفاعل معه لا كـ«كوميديان»، بل كصوت صادق يكتب من عمق التجربة العربية مع الانكسارات.

في تغريدته الأخيرة، نشر باسم صورة لخبر عن شركة Builder.ai جاء فيه: «700 مهندس هندي أنجزوا العمل بينما ادعت الشركة أنّ الذكاء الاصطناعي هو من قام به». وكتب معلقاً: «عندما تعلم أنّ جميع من يروّجون لدعاية إسرائيل هم موظفون هنود».

هنا استخدم باسم المفارقة لكشف كيف يُصنع الخطاب السياسي والإعلامي، أحياناً بأدوات بشرية مغلّفة بواجهة تكنولوجية، فيسقط قناع «الموضوعية» عن كثير من أدوات الترويج الغربية أو الإسرائيلية، فيما نشر في تغريدة أخرى ما يشبه احتفالاً بالموقف الباكستاني الذي اعتبره واعياً تجاه المخطط الإسرائيلي في المنطقة على عكس الهند التي تشكل إحدى أدوات أو جزءاً من هذا المخطط.

رغم أن معظم منشوراته تتجاوز الطابع الكوميدي، إلا أن التفاعل الكبير معها – بالآلاف – يثبت أنه يُعبّر عن مخاوف وأسئلة جمهور عريض. باسم يوسف لم يتخلَ عن سلاح السخرية، لكنه بات يستخدمه هذه المرة لا لتفكيك أنظمة محلية فقط، بل لكشف هشاشة الروايات الكبرى المضرة بالمجتمع العربي.

في المساحة نفسها التي يتحرك فيها باسم يوسف، استخدمت حسابات إعلامية مستقلة مثل @AdameMedia، السخرية الساخنة لا لمجرد الإضحاك، بل لتقويض الروايات الدعائية، عبر عكسها بطريقة فجّة على من يروّجها.

الحساب الناشط منذ 2021، يضم أكثر من 350 ألف متابع. يقدم تحليلات سياسية مناهضة للعولمة مع سخرية وتعبئة عاطفية، يركز على قضايا عالمية مثل فلسطين.

في تغريدة صادمة ظاهراً، كتب الحساب: «إسرائيل قطعت رؤوس 40 طفلاً إيرانياً». ثم أرفقها برد ساخر: «المصدر؟ لماذا؟ هل أنت إيرانوفوبي؟».

هذه التغريدة تسخر من فشل رواية غربية سابقة لكبرى وسائل الإعلام الغربية حاولت تلفيق روايات ضد المقاومات حيث زُعِم أنّ «حماس ذبحت أطفالاً»، لتكشف كيف يتم توظيف الفظائع غير المثبتة لتأجيج الرأي العام، وقمع الأصوات المعارضة بحجة التحيّز.

ورغم حدّتها، تسهم هذه اللغة في خلق مساحة نقدية مضادة للخطاب الرسمي الغربي والإسرائيلي، وتُكمل – بطريقة مختلفة – ما بدأه باسم يوسف: كشف التلاعب، ولكن بلا أقنعة.

تتسم تغريدات الشاعر والناشط الفلسطيني تميم البرغوثي أخيراً بحدة نبرة دفاعه عن المقاومة، وكسره سردية العداء الطائفي لإيران. في تغريدته التي لاقت صدى واسعاً على منصة X، أكد أنّ «العرب المعادين لإيران والمقاومة الفلسطينية وأي طرف مشتبك مع إسرائيل الآن شاؤوا أم أبوا… واقفون في صف إسرائيل… فمن رأى البيع والشراء، أو الطائفية، أو توزيع الشعر في الوجه… فهو عدو لفلسطين، وللعرب، وللمسلمين».

هنا يضع البرغوثي كل أولوية لتحرير فلسطين فوق أي خلافات طائفية أو سياسية، مشدداً على أن خيار هزيمة العدو هو الخيار الوحيد المقبول، محذراً من «نكبة كبرى» إذا استمر تأجيل المواجهة. تغريداته تعكس موقفاً حاداً وحاسماً، تلقى تفاعلاً كبيراً بين المؤيدين، لكنها قد تستفز معارضي هذا الخط السياسي.

في سياق التفاعل الإعلامي مع التصعيد بين إيران وإسرائيل، برز الإعلامي المصري عمرو أديب، بوصفه أحد أبرز الأصوات التي نقلت الموقف السعودي الرسمي بوضوح، لا سيما في إدانته الضمنية للعدوان الإسرائيلي على إيران، وهو ما مثّل تحولاً مهماً في خطاب عربي كان، حتى وقت قريب، يتماهى مع الاستقطاب المذهبي.

تغريدات أديب، التي نُشرت عبر منصة إكس، حملت لغة حذرة لكن صارمة في الوقت نفسه، تعكس قلقاً من التصعيد العسكري وتأكيداً على مبدأ الردع المتبادل.

في تغريدة بتاريخ 13 حزيران (يونيو) 2025، كتب: «لا يجب أن تكون أقوى من إسرائيل عسكرياً، ولكن من الضروري أن توضح لها مدى الألم أو الخسائر التي ستتكبدها لو فكرت في معاملتك مثل إيران».

وفي اليوم التالي، أضاف: «لا تقارن حجم الدمار في طهران بمثيله في تل أبيب… إسرائيل لا تحتمل الخسارة، إيران الدمار جزء من تكوينها». أما تعليقه في ذروة القصف الإيراني، فكان مختصراً لكنه لا يخفي حماسة أو تشجيعاً مستتراً: «بدأ الرد الإيراني، ليلة قد يعقبها ألف ليلة وليلة!».

هذه اللغة، وإن كانت غير منحازة بالكامل أو واضحة بالشكل الكافي، لكنها تمثل تغيراً مهماً في موقع الخطاب الإعلامي السعودي من صراعٍ لطالما استُخدم لتأجيج العداء الطائفي مع إيران.

مجرد الاعتراف بوجاهة الرد الإيراني، وتحذير إسرائيل من التمادي، يُعدّ تراجعاً نسبياً عن سردية تقليدية لطالما قدمت إيران بوصفها الخطر الأول على العرب أو تحميل «المقاومات» مسؤولية «وحشية إسرائيل» كما حدث مع «حزب الله» و«حماس»، ولو كان ذلك على حساب تجاهل العدوان الإسرائيلي.

من هنا، يمكن قراءة هذا الخطاب بوصفه سياقاً مساعداً لتفكيك الانقسام المذهبي، ولو بشكل غير مباشر، ويتيح – إعلامياً على الأقل – مساحة لخطابات أخرى أكثر جرأة ووضوحاً في مناصرة فلسطين.

يبقى هذا التغير في الخطاب السعودي ــــ كما عبّر عنه عمرو أديب ــــ محدوداً، وقد لا يتجاوز كونه ردّ فعل على توازنات إقليمية دقيقة، لا تعني بالضرورة مراجعة كاملة لمعادلة العداء التقليدي مع إيران أو مقاوماتها.

وإذ لا تزال أصوات المشاهير التي تتصدى للدعاية الغربية الساعية إلى ضرب المقاومة ضد إسرائيل عبر رداء طائفي قليلة أو ضعيفة، إلا أنها تتمكن رغم ذلك من الوصول إلى قطاعات واسعة من الجمهور، وترك أثر يصعب إنكاره.

وما بين طفل يحمل اسمه على أحد الصواريخ، وكوميديان يخلع عباءة السخرية ليواجه السرديات الغربية، وشاعر يتخلى عن الديبلوماسية والطائفية معاً، مروراً بإعلام رسمي بدأ يُدين العدوان الإسرائيلي على إيران، يتشكّل مشهد جديد لا يكتفي برفض الاستقطاب المذهبي، بل يبرهن أنّ صوت الضحايا، حين يكون صادقاً، قادر على إعادة تعريف العدو والحليف.

في هذا المشهد، لا يُقاس جمهور فلسطين بمذهب، ولا يُستدرج بسهولة إلى معارك الوهم. وربما، بالفعل، فإنّ «طوفان الأقصى» لم يُشعل جبهة واحدة، بل كسر أيضاً فخ الطائفية الذي صنعته الدول الغربية، وأعاد البوصلة، بدماء الآلاف، نحو جوهر الصراع.

مشاركة المقال: