شهدت أسعار النفط تقلبات حادة خلال شهر حزيران/يونيو، مما يعكس حالة التوتر والترقب في الأسواق العالمية. يعود ذلك بشكل أساسي إلى تصاعد التوترات الجيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط، وبالتحديد المواجهة العسكرية المباشرة بين إسرائيل وإيران.
هذه المواجهة، التي وصفت بأنها الأخطر منذ عقود بين البلدين، أثارت مخاوف عميقة من احتمال توسع النزاع إلى مواجهة إقليمية أوسع قد تطال البنية التحتية للطاقة وخطوط الإمداد الحيوية، خاصة في الخليج العربي ومضيق هرمز، الذي يعتبر أحد أهم الممرات النفطية في العالم.
مع تصاعد الضربات الجوية وتبادل التهديدات، تسارعت وتيرة الشراء في أسواق الطاقة، وارتفعت الأسعار بشكل حاد كرد فعل تحوطي على سيناريوهات انقطاع الإمدادات أو تعطل الصادرات.
الضربات المتبادلة التي استهدفت منشآت استراتيجية في كلا البلدين، بما في ذلك منشآت طاقة حساسة، دفعت المستثمرين إلى تسعير فوري لمخاطر اضطراب الإمدادات. يمر عبر مضيق هرمز نحو 20% من النفط العالمي، أي ما يعادل قرابة 17 مليون برميل يومياً من الخام ومشتقاته، وفقاً لوكالة الطاقة الدولية، مما يجعله شرياناً حيوياً لصادرات الطاقة من الخليج العربي، خاصة من السعودية والإمارات والكويت والعراق وقطر.
على الرغم من أن احتمال إغلاق المضيق بالكامل يعد سيناريو شديد الخطورة وله تداعيات جيوسياسية واقتصادية كبرى، إلا أن مجرد التلويح به كان كافياً لإحداث تقلبات واسعة في الأسواق، في ظل محدودية تكلفة البدائل اللوجستية لنقل النفط وارتفاعها خارج هذا المسار الحيوي، مثل خط أنابيب شرق-غرب في السعودية أو خطوط أنابيب الإمارات.
نتيجة لتلك المخاوف، قفزت أسعار خام برنت لتتجاوز حاجز 81 دولارًا للبرميل، فيما ارتفع خام غرب تكساس الوسيط إلى ما فوق 78 دولارًا، مدفوعة بموجة شراء واسعة من المستثمرين تحوطاً من أي نقص محتمل في المعروض.
لكن هذه المكاسب لم تستمر، إذ أُعلن لاحقاً عن وقف نار موقت برعاية دولية، مما هدأ المخاوف العسكرية الآنية ودفع المتعاملين للعودة إلى تقييم العوامل الاقتصادية الفعلية المؤثرة في السوق. وخلال اليومين الماضيين، انخفضت أسعار النفط بنحو 13%، لتعود إلى مستويات ما قبل الأزمة. إذ هبط خام برنت إلى حوالى 67 دولارًا للبرميل، فيما تراجع خام غرب تكساس إلى حدود 76.5 دولارًا، في انعكاس لتراجع التوترات وعودة السوق لتقييم التوازن بين العرض والطلب.
بعيدًا عن العوامل الجيوسياسية، تبرز مجموعة من المحركات الاقتصادية الأساسية التي تضغط على أسعار النفط خلال الفترة المقبلة. فالاقتصاد العالمي لا يزال يعاني من ضعف النمو، مع استمرار التباطؤ في أوروبا والصين، وهو ما تؤكده البيانات الاقتصادية الأخيرة التي أظهرت تراجعاً في مؤشرات التصنيع والاستهلاك في أكثر من منطقة، مما يعكس فتوراً عاماً في الطلب على الطاقة.
في الوقت ذاته، تستمر السياسات النقدية المتشددة في إلقاء ظلالها على الأسواق، إذ رغم التوقعات بخفض الفائدة من الاحتياطي الفيدرالي الأميركي في وقت لاحق من هذا العام، فإن بقاء معدلات الفائدة عند مستويات مرتفعة لمدة طويلة قد أثّر سلباً على وتيرة النشاط الاقتصادي، وخصوصاً في القطاعات الصناعية والنقل، وهو ما ينعكس بدوره على مستويات الطلب على النفط.
في الولايات المتحدة، تتجه الأنظار هذا الأسبوع إلى مجموعة من المؤشرات الاقتصادية الرئيسية، أبرزها بيانات الناتج المحلي الإجمالي للربع الثاني، والتي ستوفر مؤشراً مباشراً على مدى متانة الاقتصاد الأميركي تحت وطأة أسعار الفائدة المرتفعة. كما يترقب المستثمرون صدور تقرير مؤشر الإنفاق الشخصي (PCE)، وهو المؤشر المفضل للاحتياطي الفيدرالي في قياس التضخم، والذي قد يلعب دوراً محورياً في توجيه مسار السياسة النقدية المقبلة.
إلى جانب ذلك، ستشكل بيانات طلبات إعانة البطالة ومؤشر ثقة المستهلك الصادر عن جامعة ميشيغان عناصر إضافية لتحديد مزاج السوق وتوقعات الطلب المستقبلي على الطاقة. أي مفاجآت صعودية في هذه الأرقام قد تدفع الاحتياطي الفيدرالي الى تأجيل خفض الفائدة، مما يزيد من الضغوط على أسعار النفط من جهة الطلب، بينما قد تساهم أرقام أضعف من المتوقع في ترجيح كفة التباطؤ الاقتصادي وبالتالي تراجع استهلاك الطاقة.
أما من ناحية المعروض العالمي، فقد أدى ارتفاع الإنتاج من دول خارج “أوبك+”، وعلى رأسها الولايات المتحدة، كندا، والبرازيل، إلى الحد من تأثير الخفوضات التي يحاول تحالف “أوبك+” الحفاظ عليها. وفي الوقت الذي تجد فيه بعض الدول المنتجة في “أوبك+” صعوبة في التزام خفوضات الإنتاج كاملة نتيجة ضغوط اقتصادية داخلية، فإن السوق تميل إلى التوازن، مما يضع سقفاً طبيعياً أمام أي صعود حاد في الأسعار.
وتأتي هذه التطورات في ظل تراجع مفاجئ في مخزونات النفط الخام الأميركية، بحيث أظهرت البيانات الأسبوعية انخفاضاً بمقدار 11.5 مليون برميل خلال الأسبوع المنتهي في 13 حزيران/يونيو، وهو الأكبر منذ عام تقريباً، ليبلغ إجمال المخزونات نحو 421 مليون برميل, أي أقل بنحو 10% من المتوسط الموسمي لخمس سنوات. هذا التراجع يعود جزئياً إلى انخفاض الواردات وزيادة الصادرات، ما يشير إلى وجود طلب قوي، إلا أن الأسعار لم تتفاعل صعوداً مع هذا الانخفاض، بل تراجعت عقب تصريحات سياسية أميركية مؤثرة، ما يعكس استمرار حساسية السوق حيال المشهد السياسي أكثر من التوازنات اللحظية في العرض والطلب.
(*) ميشال صليبي كبير محلّلي الأسواق المالية في FxPro، محاضر جامعي في لبنان وفرنسا.
أخبار سوريا الوطن١-النهار