الجمعة, 27 يونيو 2025 10:36 PM

إعادة إعمار سوريا: رؤية تكاملية بين الجدوى الاقتصادية والتنمية المتوازنة

إعادة إعمار سوريا: رؤية تكاملية بين الجدوى الاقتصادية والتنمية المتوازنة

في ظل التحديات الهيكلية التي تواجه سوريا في مرحلة ما بعد الحرب، تزداد الحاجة إلى إعادة صياغة منهجية اتخاذ القرارات الاقتصادية، خاصة فيما يتعلق بتقييم المشاريع التنموية والاستثمارية. لم يعد مقبولاً قصر تقييم الجدوى على العائد المالي المباشر فقط، بل يجب تبني مقاربة شاملة تدمج بين الجدوى الاقتصادية بمعناها الضيق، والجدوى التنموية التي تراعي الأثر الأوسع على المجتمع والبيئة، كما يرى د. سلمان رَيّا.

تهتم الجدوى الاقتصادية بتحقيق مؤشرات مالية واضحة كالربحية وصافي القيمة الحالية ومعدلات العائد على الاستثمار. بينما تتجاوز الجدوى التنموية هذه الأطر لتشمل الأثر الاجتماعي والاقتصادي والبيئي للمشاريع، مثل خلق فرص العمل، والحد من الفقر، وتحسين الخدمات الأساسية، وتعزيز التماسك الاجتماعي.

على الرغم من الاختلاف الظاهر بين المفهومين، إلا أن العلاقة بينهما تكاملية وليست تناقضية. فالمشاريع الناجحة هي التي تحقق أثرًا اقتصاديًا وتنمويًا معًا. لكن الواقع السوري يشهد في كثير من الأحيان هيمنة للمقاربات الاقتصادية الضيقة، مع التركيز على الربحية قصيرة الأجل، وتهميش المناطق الأكثر هشاشة، وتعميق التفاوت الجغرافي والاجتماعي.

تتسم البيئة الاستثمارية في سوريا بتعقيدات كبيرة نتيجة للحرب، والانهيار المؤسسي، وركود الأسواق، وتدني القوة الشرائية. كما أن التفاوت التنموي بين المناطق يؤثر في عدالة توزيع المشاريع. لذا، فإن اعتماد معيار الربح وحده يؤدي إلى تكريس اقتصاد ريعي يفاقم الإقصاء ويفرغ التنمية من مضمونها الحقيقي.

في هذا السياق، تبرز أهمية دمج الجدوى التنموية في أدوات التقييم الاقتصادي. فاعتماد مؤشرات الأثر الاجتماعي والبيئي في مرحلة دراسة الجدوى يسهم في إعادة توجيه الاستثمارات نحو المناطق والمجتمعات الأكثر احتياجًا، ويدعم العدالة المجالية.

تشير تجارب دولية إلى فعالية اللامركزية الاقتصادية كآلية لتعزيز التنمية المتوازنة. فتوسيع صلاحيات الجهات المحلية وتمكينها من اتخاذ قرارات اقتصادية تتناسب مع خصوصياتها يحسن كفاءة تخصيص الموارد ويعمق المشاركة الشعبية. وهذا يستدعي خطوات تدريجية مدروسة في تفويض الصلاحيات ودعم قدرات الوحدات المحلية، وليس نقلًا كاملاً للسلطة.

لتطبيق هذا النموذج المتكامل في سوريا، يُقترح اعتماد إطار تقييم مزدوج يأخذ في الحسبان الجدوى الاقتصادية والتنموية معًا، مع تحديد أوزان معيارية لكل منهما حسب طبيعة المشروع. كما ينبغي وضع حوافز ضريبية ومالية وتسهيلات إجرائية لتعزيز الاستثمار في القطاعات والمناطق ذات الأولوية التنموية، خاصة المناطق الريفية والمحرومة.

تكتسب الشراكة بين القطاعين العام والخاص أهمية استراتيجية، حيث يمكن للقطاع العام تحمل الجزء الأكبر من المخاطر، فيما يضطلع القطاع الخاص بالتنفيذ والخبرة التشغيلية. وتزداد أهمية هذه الشراكات في المشاريع التي لا تتمتع بجاذبية مالية فورية، لكنها تحمل أثرًا اجتماعيًا بالغًا.

لا يقل أهمية عن ذلك تمكين المجتمعات المحلية من المشاركة في تحديد أولوياتها التنموية. فالمشاركة المجتمعية لا تعزز فقط فعالية المشاريع، بل تعطيها شرعية محلية وتسهم في استدامتها على المدى البعيد، من خلال آليات تشاركية في التخطيط واتخاذ القرار، وتوسيع أطر المشاورة المحلية.

من الأمثلة التطبيقية: مشاريع إعادة إعمار البنية التحتية الحيوية كالمستشفيات والمدارس في المناطق المهمشة، أو مشاريع الطاقة المتجددة التي توفر فرص عمل وتحمي البيئة، أو مشاريع تطوير الموارد المائية والزراعية التي تعزز الأمن الغذائي. فمثل هذه المشاريع، وإن لم تكن مغرية من منظور الربح السريع، فإنها تنتج أثرًا عميقًا ومستدامًا في حياة الناس.

يقتضي قياس الجدوى التنموية اعتماد مؤشرات كمية ونوعية دقيقة، مثل عدد فرص العمل المستحدثة، ونسبة استفادة الفئات المهمشة، والأثر البيئي، ومدى استدامة المشروع بعد انتهاء فترة التمويل، ومستوى المشاركة المجتمعية. وتُدرج هذه المؤشرات ضمن منظومة التقييم إلى جانب المؤشرات الاقتصادية التقليدية، لتكوين رؤية أكثر توازنًا وعمقًا.

في هذا السياق، يبرز دور المانحين الدوليين والمنظمات متعددة الأطراف في تمويل المشاريع التي تحقق أهدافًا تنموية لا تستقطب الاستثمار الخاص بسبب ضعف مردودها المالي. كما يمكنهم تقديم ضمانات للمخاطر، ودعم بناء القدرات الوطنية والمحلية، ما يعزز استدامة النتائج.

في المحصلة، إن إعادة إعمار سوريا لا ينبغي أن تُقاس فقط بالأرقام والمؤشرات الاقتصادية الصرفة، بل بمدى قدرة المشاريع على ترميم النسيج الاجتماعي، وتحقيق العدالة المجالية، وتمكين الإنسان السوري من إعادة بناء حياته بكرامة. إننا بحاجة إلى إعادة التفكير في منظومة الاستثمار والتخطيط، لتصبح أكثر شمولية وعدالة واستدامة. فالجدوى الحقيقية تبدأ حين يكون الإنسان – وليس الربح وحده – في صلب القرار الاقتصادي. (موقع اخبار سوريا الوطن الالكتروني-1)

مشاركة المقال: