زياد حافظ - الرابع والعشرون من حزيران/يونيو 2025، تاريخ يسجل زلزالاً سياسياً لم تشهده مدينة نيويورك ولا الولايات المتحدة من قبل. ما حدث في نيويورك قد يكون بداية لتحولات جذرية في المشهد السياسي الأميركي، خاصة فيما يتعلق بقضية فلسطين.
فوز زهران ممداني، الشاب البالغ من العمر 33 عامًا، ذو الأصول الهندية المسلمة والاشتراكي والمؤيد للقضية الفلسطينية، يشكل نقطة تحول في عاصمة الرأسمالية العالمية، ومعقل المؤسسات الصهيونية في الولايات المتحدة، ومركز أكبر تجمع لليهود في الولايات المتحدة.
تغلب ممداني على خصمه أندرو كوومو، الحاكم السابق لولاية نيويورك ووزير الإسكان والتنمية المدينية في ولاية كلينتون، وهو أيضًا نجل الحاكم السابق لولاية نيويورك ماريو كوومو، أي أنه ابن المؤسسة الحاكمة في الحزب الديمقراطي وصاحب التراث العائلي المرموق داخل الحزب.
حقق ممداني فوزًا بنسبة مرتفعة، حيث حصل على 43.5% من الأصوات، بينما حصل كوومو على 36.4%، مما يعكس غضبًا شديدًا لدى الناخب الديمقراطي تجاه قياداته التقليدية. خسارة مدينة نيويورك للنخب المتحكمة في الحزب الديمقراطي تعني خسارة مباشرة للنخب التي أفرزت كلينتون وأوباما وبايدن وكل رموز الفساد في الحزب.
وصول ممداني إلى منصب عمدة نيويورك يعني أن فلسطين أصبحت لأول مرة في تاريخ التنافس السياسي إحدى محاور التنافس ولم تعد من المحرمات. الجيل الذي صوّت بكثافة لصالح ممداني هو جيل الشباب، الذي ساهم في الاعتصامات والاحتجاجات في الجامعات الكبرى، ومنها جامعة كولومبيا في نيويورك، التي انطلق منها الحراك الطلابي.
وجود فلسطين في الحراك السياسي الأميركي يواكب الغضب لدى الشباب من سلوك النخب الحاكمة في الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري. لا يجب أن ننسى أن أحد كبار الشيوخ في الحزب الديمقراطي هو شارل شومر اليهودي، الذي سارع لتهنئة ممداني لعدم إغضاب القاعدة الشبابية داخل الحزب وفي مدينة نيويورك.
خسارة أندرو كوومو، المعروف بدعمه للكيان وكرهه للعرب والمسلمين، تنذر سائر السياسيين في معاقل اللوبي الصهيوني بأن القاعدة الشعبية لم تعد تكترث للسردية التي تروجها الأوساط الصهيونية. ولا يجب أن نغفل ظاهرة الكسندرا اوكازيو كورتيز، التي فازت على أحد أعمدة الحزب الديمقراطي في نيويورك سنة 2018، وهي ظاهرة أنذرت بدور الشباب في الحراك السياسي، وهي تخدم في مجلس النواب حتى الساعة.
فوز ممداني في الانتخابات التمهيدية أثار عاصفة داخل الحزب الديمقراطي بسبب موقفه المؤيد للقضية الفلسطينية، والذي يجاهر به، وهو الناشط في حملة "بي دي أس" لمقاطعة الكيان، التي شكلت نقطة تحول كبير في الوعي الأميركي تجاه قضية فلسطين. هذا الفوز جعل من فلسطين وانتقاد الكيان في صلب الحياة السياسية بعدما كانت من المحرمات طرح وجهة نظر معادية للكيان الصهيوني.
هذا الفوز يدل على أن النخب السياسية الحاكمة لم تعد قادرة على السيطرة على السردية السياسية التي تروجها، وأن القيادات السياسية منقطعة عن مزاج القاعدة الشعبية، خاصة بالنسبة للحزب الديمقراطي. الحزب يراكم الإخفاقات في الانتخابات النيابية والرئاسية، والآن على صعيد حكم المدن، وربما غدًا الولايات المحسوبة تاريخيًا له.
ما يزيد الأمر تعقيدًا هو التوجهات الاشتراكية لزهران ممداني في مدينة هي عاصمة الرأسمالية العالمية وعاصمة المراكز المالية التي تحكم الولايات المتحدة والعالم. وقد أكد في حملته الانتخابية ضرورة تقديم الخدمات الاجتماعية مجانًا للمحتاجين، ما يضرب عرض الحائط ممارسات ترفض تقديم تلك الخدمات واستمرت لعقود بل لقرون. هذا الفوز ضرب في الصميم ذلك الرمز، ما يدل على تغيير كبير في مزاج الشباب الأميركي.
القاعدة الشعبية التي انتخبت ممداني هي من الشباب المنتمين لجيل "زد" (generation Zed)، أي الذين هم من مواليد ما بعد 2000. مراكز الأبحاث الأميركية تشير بوضوح إلى تنامي الأفكار الاشتراكية عند الشباب الأميركي المنتمين لجيل "الألفية" (millennials) الذين ولدوا بين 1981 و2000، إضافة إلى جيل "زد".
ما يحصل في الحزب الديمقراطي هو الانفصال بين النخب التي تتحكم بالحزب والقاعدة الشعبية، وخاصة الشباب الذين يشكلون عصب الحملات الانتخابية. خسارة الشباب تعني فقدان "الجيش" الذي يحمل لواء وشعارات الحزب. الحزب خلال العقود الماضية تحول من حزب يحمل قضايا وهموم الطبقة العاملة والوسطى ليصبح المدافع عن مصالح الشركات المالية بحجة "خطاب وسطي" ضروري للوصول إلى السلطة، فأصبح اليوم منقطعًا عن توجهات وهواجس قاعدته الشعبية وخاصة الشباب.
يرى الشباب الأميركي أن النظام الاقتصادي والسياسي القائم لا يلبي حاجات المواطن الأميركي، وبالتالي بدأ ينظر إلى الفكر الاشتراكي كبديل على الثقافة السائدة والمسيطرة. وتلازمًا مع تنامي الأفكار الاشتراكية لدى الشباب الأميركي، لاحظنا تنامي الإسلام، حيث عدد الذين يدخلون الإسلام في الولايات المتحدة يتجاوز الخمسين ألفًا حسب بعض الإحصاءات التي اطلعنا عليها. المجتمع الأميركي يواجه تحديات لا تستطيع المنظومة السياسية والثقافية السائدة معالجتها، لذلك نرى التوجه نحو الاشتراكية والإسلام.
فوز المرشحة المسلمة شاهانا حنيف من أصول بنغلادشية لعضوية مجلس البلدية في نيويورك يؤكد ذلك التغيير الذي نشهده في مدينة نيويورك، والذي يعكس أيضًا تحولًا في البنية السكانية للمدينة وللولايات المتحدة بشكل عام. الجامعات العريقة التي قادت التظاهرات الطلابية في العام الماضي هي تلك الجامعات التي تضم أبناء النخب الحاكمة.