الإثنين, 30 يونيو 2025 09:14 PM

تفجير كنيسة دمشق: مؤشرات خطيرة وتحديات أمام السلطة

تفجير كنيسة دمشق: مؤشرات خطيرة وتحديات أمام السلطة

يرى غزوان قرنفل أن الجريمة الإرهابية التي استهدفت كنيسة “مار إلياس” في دمشق يوم الأحد الماضي، والتي خلّفت عددًا كبيرًا من الضحايا بين قتلى وجرحى، قد زادت من حدة التوتر في البلاد. وتثير هذه الجريمة المخاوف من أن تكون بداية لأعمال إرهابية تستهدف البنيان الوطني برمته، وليس المسيحيين فقط، بهدف إدخال البلاد في دوامة الاقتتال وتدمير أي فرصة لإعادة اللحمة الوطنية إلى المجتمع والدولة السوريين.

لا يمكن فهم هذه العملية الإرهابية إلا باعتبارها انتقالًا إلى مرحلة جديدة أكثر خطورة ودموية، مما يضع السلطة أمام امتحان صعب. فالقيادة ما زالت تؤجل مواجهة هذا التحدي وتحاول التهرب من مسؤولياتها، مترددة بين الوفاء لخلفيتها الجهادية التي تحاول التخلي عنها شكليًا، وبين ضرورة الاستجابة لمتطلبات بناء الدولة على أسس مختلفة عن عقيدتها السلفية المتطرفة. وتحاول السلطة عبثًا خلق نموذج هجين، معتقدة أنها قادرة على تسويقه دون الحاجة إلى شراكة وطنية حقيقية تتطلب حوارًا وطنيًا عميقًا للاتفاق على أسس وطنية ودستورية تحدد شكل هذه الشراكة، وترسم ملامح الدولة الجديدة ونظامها السياسي والإداري، وتحقق التوازن بين السلطات، وتنبذ فكرة التفرد والاستئثار تحت أي ذريعة.

إذا استمرت السلطة في اعتقادها الخاطئ بإمكانية بناء دولة عصرية يتعايش فيها الفكر السلفي ورؤيته للدين والحكم والدولة، فإن رصيدها المتبقي سيتآكل تدريجيًا، وستتآكل معه إمكانية التعايش والشراكة الوطنية والحفاظ على سلامة البلاد ووحدتها.

لا يهدف هذا المقال إلى الخوض في جدل حول أفكار السلفية التي تكفّر كل ما هو مختلف، والتي تعتبر دخيلة على المجتمع السوري وليست جزءًا أصيلًا منه، على الرغم من أنها القوة المسيطرة حاليًا على السلطة في البلاد بدعم من قوى إقليمية ودولية، تقاطعت مصالحها على تمكين هذه الفئة لأداء دور يخدم مصالحها أكثر مما يخدم مصالح السوريين. ومع ذلك، فإن هذا الدعم لا يمنحها الشرعية الوطنية الكاملة، لأنها تتعارض مع فكرة الدولة نفسها ومع فكرة المواطنة والحقوق المتساوية بين جميع أفراد المجتمع.

إن هذه الجريمة والعتبة الدموية التي أراد منفذوها الوصول إليها تنذر بخطر وجودي، ليس فقط على السوريين المخالفين لرؤى هؤلاء، ولا على الوطن السوري نفسه، بل حتى على السلطة نفسها، التي يرى جزء من مكوناتها العسكرية أنها خالفت المشروع الجهادي الأساسي الذي انطلقت منه لمواجهة وإسقاط نظام الأسد ومفرزاته الطائفية، لا لإقامة دولة القانون والمواطنة، بل لإقامة إمارة إسلامية تحكم “بما أنزل الله” وتكون نواة ومنطلقًا لجهاد عابر للحدود لا ناقة للسوريين فيه ولا جمل.

وسواء أكان الفاعل منتميًا حقًا إلى “سرايا أنصار السنّة” الذي أعلن تبنيه لتلك الجريمة، أو كان من المنتمين لخلايا “داعش” التي أعلنت وزارة الداخلية عن اعتقال مجموعة منهم وضبطت أسلحة ومتفجرات وأجهضت ما قالت إنه تحضيرات لجريمة أخرى، فإن المشكلة تكمن في التطرف الديني الذي بدأت مؤشراته تتصاعد داخل المجتمع السوري، والذي لا ترى فيه السلطة الحالية مشكلة جوهرية يتعين التصدي لها، بل ربما تراه فرصة لترسيخ نفوذها. ولا يعتقد الكاتب أنها في وارد مواجهة هذا التطرف حتى لو أرادت ذلك، لأن كل مكوناتها العسكرية والأمنية تتغذى من هذه البيئة الفكرية وتتخذها منهجًا لعملها.

إن فكرة “الشيخ” نفسها، التي تُسمع هنا وهناك ضمن مؤسسات الدولة، والتي لا يعرف أحد ماهية الوظيفة التي يشغلها هذا “الشيخ” والصلاحيات التي يملكها، ولا صفته وحدود دوره في تلك المؤسسات، تؤدي في بعض الحالات إلى اعتداء على مواطنين. هذه الفكرة بحد ذاتها هي اعتداء على الدولة وانتهاك لسلطان القانون والدستور، واحتلال لمؤسسات الدولة بغير صفة أو حق. فهل هذا واحد من مؤشرات الانتقال من مرحلة الثورة إلى مرحلة بناء الدولة كما تراها السلطة الحالية؟

مجددًا ودائمًا، نحتاج للتذكير بأن ما يجري ليس أكثر من مقامرة بسوريا وعليها، وأن بناء الدولة الجديدة يحتاج لوضع بضع نقاط فوق الحروف وتحتها لتكون العبارات واضحة لا لبس فيها، وأولها هو القول: إن ما تفعله السلطة وما تشتغل عليه حتى الآن لا يؤسس لدولة بل يؤسس لسلطة تقوم على الغلبة والإكراه، وهو ما يعيدنا جميعًا لنقطة هي ما دون الصفر الذي انطلقنا منه ابتداء لمواجهة طغيان سلطة الأسد.

إن بناء الدولة يبدأ بالتأسيس لشراكة وطنية تجمع كل السوريين على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم على قيمة عليا اسمها “وطن لجميع أبنائه”، يمنحهم حقوقًا متساوية، وهذا لا يتم إلا بحوار ومكاشفة في العمق تطرح فيها كل الهواجس والأفكار والتصورات عن الشكل الأمثل لتلك الشراكة.

إن بناء الدولة يقتضي أن تؤطر كل تلك التوافقات الوطنية ضمن دستور وطني، يشارك كل الطيف السوري بصياغته، لا يكرس طغيانًا لفئة على أخرى، ولا لسلطة على سلطة، ويعزز ويحمي قيم الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية.

إن بناء الدولة لا يقتضي بالضرورة البقاء على نمط أو طراز معتاد على مركزية مفرطة لصناعة القرار والسياسات، وخاصة فيما يتعلق بالشؤون المحلية للمدن والمحافظات والمناطق، وإن البحث عن نمط مغاير لفكرة المركزية في الحكم، والانتقال إلى توزيع سلطة الشراكة الوطنية في صناعة القرار ربما هي حقًا الصيغة الأمثل والأكثر نجاعة لإدارة شؤون الناس والاستجابة لموجبات إشراكهم في صناعة القرار.

إن بناء الدولة، أخيرًا، يقتضي إشراك الكفاءات الوطنية في مختلف مؤسسات الحكم والإدارة بصرف النظر عمّا به يؤمنون، وعمّا إليه ينتمون.

أعتقد أنه آن أوان المراجعات والتفكر والتدبر، فالعودة عن الخطأ خير من التمادي فيه، وسوريا تحتاج للانتقال إلى عتبة بناء الدولة وتستأهل ذلك، لا إلى عتبة الدم التي يسعى كثير من الجهلة إلى جعلنا خراف أضاحٍ تُسفح دماؤها على مذبح التطرف.

مشاركة المقال: