يكاد يجمع الإيرانيون على كراهية وخوف تجاه عدد من المنظمات، وعلى رأس هذه القائمة يبرز الموساد، جهاز الاستخبارات الخارجية الإسرائيلية، الذي يرتبط في أذهانهم بالاغتيالات والعنف والجرائم. تأسس الموساد عام 1951 بقرار من رئيس الوزراء الإسرائيلي دافيد بن غوريون، وهو مكلف بإحباط الأنشطة الموجهة ضد إسرائيل على مستوى العالم.
يُعد قسم العمليات الخاصة أهم أقسام الموساد، إذ يتولى تنفيذ الأنشطة العسكرية والاستخباراتية، بما في ذلك اغتيال من تعتبرهم إسرائيل أعداءً لها. أما الوحدة التقنية، فهي قسم آخر مهم، يختص بتطوير واستخدام التقنيات المتقدمة لدعم العمليات التي ينفذها الموساد ضد أهداف محددة، وترتبط ارتباطًا وثيقًا بالجيش الإسرائيلي. وفي مثال على ذلك، أشار علي شمخاني، أمين مجلس الأمن القومي الإيراني آنذاك، إلى أن عملية اغتيال العالم النووي الإيراني الدكتور محسن فخري زاده نُفذت دون وجود عناصر بشرية في مكان الحادث، باستخدام إطلاق نار عن بُعد بواسطة مدفع رشاش.
لطالما كان اسم الموساد حاضرًا في المجتمع والحكومة الإيرانية، لكنه اكتسب اهتمامًا غير مسبوق بعد هجوم إسرائيل على إيران في 13 حزيران (يونيو)، مما أثار تساؤلات حول كيفية تمكن الموساد من التغلغل في إيران وتنفيذ عمليات دقيقة بالتعاون مع سلاح الجو الإسرائيلي لاغتيال قادة عسكريين وعلماء نوويين إيرانيين. للإجابة على هذا السؤال، يجب العودة إلى عهد الشاه وتحديدًا إلى خمسينيات القرن العشرين.
كان الموساد، إلى جانب وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA) والمخابرات السوفياتية (KGB) والاستخبارات البريطانية (MI6)، من أنشط الشبكات الاستخباراتية في إيران. وكشف كتاب صدر مؤخرًا ليعقوب نيمروزي، مؤسس الموساد في إيران، كيف جند الموساد أفرادًا منذ سنوات طويلة لجمع المعلومات وتنفيذ العمليات. لم يقتصر دور الموساد على تبادل المعلومات حول الدول العربية والمنطقة مع إيران، بل شمل أيضًا تزويد جهاز المخابرات والأمن الإيراني (السافاك) بمعلومات عن معارضي نظام الشاه، وساهم بشكل كبير في تدريب قوات السافاك وتعزيز معرفتها الأمنية. ومع تعزيز العلاقات بين الموساد والسافاك، ازدادت قوة الحزام الأمني الأميركي ضد الاتحاد السوفياتي في منطقة الشرق الأوسط الاستراتيجية، لتصبح إسرائيل، بعد الولايات المتحدة، ثاني دولة تربطها علاقات استراتيجية بإيران.
زيارة نيكيتا خروتشوف، الأمين العام للحزب الشيوعي السوفيتي، إلى القاهرة عام 1964، عززت العلاقات بين الاتحاد السوفياتي ومصر، وجعلت الشاه أكثر تصميمًا على توسيع علاقاته مع إسرائيل. على مدى حوالي 20 عامًا من التعاون، خصص الموساد والسافاك جزءًا كبيرًا من أنشطتهما المشتركة لاستهداف العراق، الذي كان ينافس نظام الشاه بشدة. بعد الثورة الإيرانية وفراغ السلطة، هاجم صدام حسين إيران بدعم من الولايات المتحدة، مما أدى إلى إضعاف البلدين بعد حرب استمرت 8 سنوات، وهو الهدف الذي سعت إليه الولايات المتحدة وإسرائيل.
بعد الثورة الإيرانية، تحول التعاون الأمني بين إيران وإسرائيل إلى صراع مصالح، وأصبح البلدان عدوين. عندها، حدد الموساد ضرورة التغلغل في إيران كعدو محتمل.
وقال يوسي كوهين، الرئيس السابق للموساد، في حفل وداعه: “لا أريد ولا أستطيع الكشف عن تفاصيل العمليات التي نفذناها ضد إيران، لكننا عملنا بلا هوادة لجمع المعلومات عن إيران، وكشف أسرارها، وكسر ثقتها بنفسها وكبريائها”. وأشار كوهين إلى عملية سرقة وثائق نووية من جنوب طهران عام 2018، واغتيال العالم النووي محسن فخري زاده.
تضمنت عملية 2018 سرقة 50 ألف صفحة من الوثائق الورقية و55 ألف صفحة من المعلومات المخزنة، وتم نقلها خارج إيران، وبناءً على هذه الوثائق تم لاحقًا اغتيال فخري زاده. في حزيران (يونيو) 2019، انتقد الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد بعض المؤسسات الأمنية، وكشف عن اختراق إسرائيل لوزارة المخابرات الإيرانية، موضحًا أن أعلى مسؤول مكلف بمكافحة جواسيس إسرائيل في الوزارة كان نفسه جاسوسًا لإسرائيل، مشيرًا إلى أنه من المستحيل أن يكون هذا الرجل قد عمل بمفرده، وأن هناك شبكة يجب كشفها.
لكن التحذير الأبرز بشأن اختراق الموساد في إيران جاء من علي يونسي، وزير المخابرات الإيراني السابق، الذي قال إن اختراق الموساد في مختلف القطاعات في إيران ازداد خلال العقد الأخير، وأن على مسؤولي الجمهورية الإسلامية أن يقلقوا على حياتهم.
بينما كان بعض المسؤولين الإيرانيين يعبرون عن قلقهم من اختراق الموساد، عُرض قبل عامين مسلسل من ثماني حلقات بعنوان “طهران” على التلفزيون الإسرائيلي، يروي عمليات الموساد في إيران، ويظهر كيف ينفذ عملاء الجهاز بالتعاون مع عناصر داخلية، عمليات اغتيال وتخريب. روّج الحساب الرسمي لوزارة الخارجية الإسرائيلية على تويتر لهذا المسلسل مرات عديدة، وعُرض في إيران بشكل غير رسمي.
وخلال الحرب التي استمرت 12 يومًا بين إسرائيل وإيران، لعب الموساد دورًا فعالًا في الهجمات على إيران. على الرغم من أن العمليات نفذتها غالبًا مجموعات من 6 إلى 10 طائرات مقاتلة تابعة لسلاح الجو الإسرائيلي، فقد حدد الموساد منذ سنوات الأفراد والمواقع المستهدفة ووفر المعلومات للجيش الإسرائيلي. ويزعم الاسرائيليون أنهم استهدفوا خلال هذه الأيام الـ 12 حوالي 250 هدفًا عسكريًا ونوويًا في إيران، لكن العديد من المناطق السكنية تعرضت للقصف أيضًا، مما يشير إلى أن عدد القتلى يتجاوز بكثير الرقم الرسمي المعلن وهو حوالي 600 إيراني. وفقًا لصحيفة “وول ستريت جورنال” تم الاتفاق على الهجوم الأخير على إيران في تشرين الثاني (نوفمبر) 2024 بين كبار المسؤولين العسكريين والاستخباراتيين الإسرائيليين، وتم الانتهاء من التخطيط في 9 حزيران (يونيو) 2025.
بناء عليه، يمكن القول إن الموساد اخترق إيران منذ سنوات، وبخاصة منذ عام 2002، عبر ثلاث طرق رئيسية:
أولاً، من خلال التقنيات الحديثة والمعقدة والبرمجيات الخبيثة مثل فيروس “ستاكسنت” عام 2010، الذي تسبب بأضرار للبرنامج النووي الإيراني وأخر تقدمه. مثال آخر هو برمجية التجسس “بيغاسوس”، التي تحول الهواتف المحمولة إلى أدوات تجسس لصالح الموساد دون علم أصحابها. ويُقال إن الأجهزة الإلكترونية، وخاصة الهواتف، لعبت دورًا كبيرًا في التنصت وتحديد الأهداف. وعلى سبيل المثال، اخترق الموساد كوادر حزب الله في لبنان صيف 2024 عبر الهواتف المحمولة، مما دفع الحزب إلى استبدال الهواتف بأجهزة “بيجر”، لكن الموساد تمكن من اختراق هذه الأجهزة أيضًا، مما أدى إلى انفجارها وقتل 37 شخصًا وإصابة 3 آلاف آخرين. كما تم اختراق هواتف صحافيي قناة الجزيرة عام 2020، وهاتف صحافي من صحيفة “نيويورك تايمز ” في بيروت عام 2018. وفي إيران، عُرض مؤخرًا مقطع فيديو لأمير علي حاجي زاده، الذي قتل في الهجمات الإسرائيلية الأخيرة، يحذر فيه بوضوح من أن جميع القوات المسلحة تحت مراقبة العدو ويجب أن تكون حذرة.
الطريقة الثانية هي تجنيد عناصر بشرية في مواقع العمليات. في الحرب الأخيرة التي استمرت 12 يومًا، تبين أن الموساد تمكن خلال السنوات الأخيرة من تجنيد عدد كبير من العناصر البشرية، معظمهم من الأفغان غير الشرعيين، لجمع المعلومات الميدانية واستخدامهم لتشغيل طائرات بدون طيار متفجرة خلال الهجمات الجوية الإسرائيلية. لا تتوفر إحصائيات دقيقة عن عدد الطائرات بدون طيار المستخدمة في هذه الحرب، لكن السلطات الإيرانية أكدت إسقاط عدد منها، بما في ذلك طائرات من طراز “هيرمس” و”هيرون”، وهبوط عدد آخر سالماً.
وتم اعتقال حوالي 700 شخص من عملاء الموساد الذين شاركوا في صيانة وتشغيل الطائرات بدون طيار خلال هذه الفترة. ويزعم الإسرائيليون أن عملاء الموساد في إيران أعدوا خرائط دقيقة لأنظمة الدفاع الجوي الإيرانية، وأدخلوا أجزاء الطائرات بدون طيار والذخائر عبر حقائب السفر وشاحنات الشحن. وتم اعتقال معظم عملاء الموساد بعد الهجوم الأول في 13 حزيران (يونيو) بناءً على بلاغات شعبية وعبر نقاط التفتيش. كما تم تكثيف عمليات ترحيل الأفغان غير الشرعيين، حيث يُقال إن حوالي 9 ملايين أفغاني يقيمون في إيران بشكل غير قانوني.
أما الطريقة الثالثة فهي اختراق الموساد للطبقات العليا من صناع القرار والإدارة في إيران، وأحيانًا عبر تقرب عملاء سريين من المسؤولين. أبرز مثال على ذلك هو وجود كاترين بيريز شاكدام في إيران بين عامي 2014 و2019 تحت غطاء ناشطة إعلامية، قبل أن يتبين لاحقًا ارتباطها بأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية. كما يستخدم الموساد الحرب النفسية والعمليات الإعلامية لدفع المسؤولين وصناع القرار إلى اتخاذ مواقف وقرارات تخدم مصالح النظام الصهيوني. على سبيل المثال، يستخدم الصهاينة في المحافل الدولية شعارات بعض المسؤولين الإيرانيين الداعية إلى “تدمير إسرائيل” لتبرير جرائمهم واغتيالاتهم.
في أي حال، مع انتهاء الحرب التي استمرت 12 يومًا بين إسرائيل وإيران، لا يبدو أن هذا الصراع انتهى فعليًا. وكما أعلن المسؤولون الإسرائيليون، فإن احتمال اندلاع حرب جديدة سيظل قائمًا طالما استمر التهديد من الجمهورية الإسلامية. وسيواصل الموساد لعب دور فعال في هذا الصراع باستخدام الطرق الثلاث المذكورة. ومن الطبيعي أن تتخذ إيران إجراءات للحد من اختراق الموساد، وفي هذه الحالة، وحتى لا تشتعل نار الحرب العسكرية مجددًا، سنشهد حربًا استخباراتية كبيرة ومستمرة بين إيران وإسرائيل.