الإثنين, 14 يوليو 2025 05:17 PM

المواطنة المتساوية: طريق سوريا نحو الخلاص من الانهيار

المواطنة المتساوية: طريق سوريا نحو الخلاص من الانهيار

د. سلمان ريا: "إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي" (النحل: 90) "لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى" – رسول الله ﷺ "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟" – عمر بن الخطاب رضي الله عنه

منذ البدايات الأولى، قامت الرسالة الإسلامية على تحرير الإنسان وتأسيس مجتمع يسوده العدل والمساواة، لا على توريث الحكم أو احتكار السلطة. لكن الدولة العربية–الإسلامية انحرفت سريعًا عن هذه القيم إلى منطق الملك العضوض، حيث اختُزلت السلطة في الأسر الحاكمة وتحولت الخلافة إلى وراثة.

في غياب الدولة المؤسسية، لم يكن "العدل السياسي" جزءًا أساسيًا من التجربة التاريخية، بل ظل استثناءً. ترسخ في الوعي التاريخي العربي أن الدولة مجرد "سلطة عائلية متقلبة" تُنسب إلى الأسر، لا إلى القانون أو المؤسسات.

عندما تحدث الإسلاميون المعاصرون عن "الدولة الإسلامية"، لم يدركوا أن المفهوم الحديث للدولة لم يكن موجودًا في تراثنا السياسي. لقد تحدثوا عن الدولة بوصفها "تاريخًا مجيدًا"، لا كعقد اجتماعي أو ضامن للحقوق. وقد لاحظ المستشرق فرانز روزنتال هذه المفارقة عندما ترجم مقدمة ابن خلدون، فاختار ترجمة كلمة "دولة" بـ "Dynasty" أي الأسرة الحاكمة، لا "State".

أعباء ولادة الدولة الحديثة في العالم العربي

في العصر الحديث، ومع تفكك السلطنة العثمانية وقيام الدول الوطنية العربية في بدايات القرن العشرين، وُلدت الدولة الحديثة في العالم العربي مثقلة بثلاثة أعباء:

  1. مشروع يتجاوز الدولة: كالقومية العربية، والأمة الإسلامية، والأممية الاشتراكية، التي سعت إلى كيان أكبر من الدولة.
  2. هويات دون الدولة: من الطوائف إلى القبائل والانتماءات العرقية والانقسامات المذهبية، التي سعت إلى تفكيك الدولة من الداخل.
  3. نخب غير مؤمنة بالدولة: نخب ثقافية وسياسية لم تنخرط في بناء الدولة الوطنية، بل بقيت رهينة الولاءات الجزئية أو التبعية الخارجية.

وهكذا، وُلدت الدولة العربية الحديثة ضعيفة، محصورة بين مشاريع تتجاوزها وهويات تقوضها ونخب تتاجر بها.

صعود الدولة الشمولية وانهيار المعنى

ثم جاء طور الدولة الشمولية، التي ارتكزت على الحزب الواحد والزعيم الأبدي والأجهزة الأمنية. حلت "شرعية الأمن" محل "شرعية الدولة"، وأصبح المواطن مطالبًا بالخضوع لا بالمشاركة، وأصبح الولاء للنظام شرطًا لنيل الحقوق. ارتفع منسوب القمع وتلاشى الأمل. ولم يكن سقوط هذه الدول في بعض البلدان إلا تتويجًا لمسار طويل من تآكل الشرعية وانعدام الثقة.

في هذا السياق، من المفيد العودة إلى ما كتبه الماوردي في كتابه تسهيل النظر وتعديل الظفر، حين قال إن استقرار الملك يقوم على: "دينٍ متّبع، وعدلٍ شامل، وأمنٍ عام، وخصمٍ دائم، وأملٍ فسيح."

الدولة الحقَّة تُنتِج الأمل، لا تقمعه. تُدير الخصومات لا تُشعلها. تبني للغد، لا تسكن في الماضي. لكن دولة الاستبداد العربي صنعت نقيض ذلك: أغلقت أفق الأمل، ورفعت شعارات الأمن، فصارت قاسيةً على مواطنيها، رخوةً أمام أعدائها، تنهار من داخلها قبل أن تتعرض لأي عدوان خارجي.

الدولة كوطن… لا كنظام

في سوريا، كان النظام السياسي صورة مكثفة لهذا المسار المأزوم. فقد تم اختزال الدولة في النظام، والنظام في الزعيم. ومع اشتداد الأزمة، أصبح الدفاع عن النظام يُقدَّم بوصفه دفاعًا عن الدولة، ثم عن الوطن.

لكن ما لم يُدركه صناع الاستبداد أن "الدولة" لا تُبنى بالقوة وحدها، بل تُؤسس على عقد مواطنة متساوية. لا أحد يريد لسوريا أن تتمزق، ولكن لا أحد – أيضًا – يريد العودة إلى "سوريا الخانقة".

لحظة التأسيس الجديدة

نحن أمام لحظة تاريخية مفصلية: إما أن نعيد تأسيس الدولة السورية على قاعدة المواطنة الدستورية المتساوية، التي تساوي بين الجميع في الحقوق والواجبات، وتحترم التنوع الديني والطائفي والعرقي والمناطقي، وتُعيد توزيع السلطة والثروة بعيدًا عن المركزية القاتلة… أو نعود إلى دوامة الانهيار.

الدولة التي نريدها في سوريا الغد، ليست مشروع طائفة، ولا امتداد أيديولوجيا، بل مشروع مدني إنساني جامع، يُكرّس سلطة القانون، ويُؤسّس للعدالة، ويضمن الحريات، ويُطلق قدرات السوريين لبناء وطنٍ يليق بهم.

خاتمة الأمل: لا نحتاج زعيمًا، بل نحتاج دولة

إن سوريا – كما نحلم بها – لا تحتاج إلى زعيم، بل إلى دستور. لا تحتاج إلى من يُخضعها، بل إلى من يُنقذها. لا تحتاج إلى تجييشٍ جديد، بل إلى تصالح عميق مع ذاتها، ومع شعبها، ومع فكرة الدولة ذاتها.

فالدولة الحقّة لا تُبنى إلا بإرادة حرة، ومواطنة عادلة، ومشاركة واعية. ومستقبل سوريا، لا يُرسم في القصور، بل يُصنع في وجدان مواطنيها.

مشاركة المقال: