إدلب-سانا: على مشارف المدينة القديمة في إدلب، حيث كانت الأيادي الماهرة تحوّل الطين والخيوط إلى تحف فنية، تقف اليوم ورش مهجورة تشهد على زمن ولى. أصوات الحرب طغت على أصوات الأدوات اليدوية، لتتلاشى تدريجياً مهنٌ كانت جزءاً لا يتجزأ من الهوية السورية.
الحرف اليدوية التراثية، كصناعة الفخار والنسيج والتطريز، تعاني تحت وطأة التهجير والفقر والإهمال الثقافي. هذا التحقيق يسلط الضوء على أسباب تدهور هذه الحرف، ويعيد الاعتبار للحرفيين الذين يكافحون للبقاء.
الحرف القديمة… بين النزوح والتجاهل المؤسسي
قبل عام 2011، كانت إدلب تضم العشرات من الورش التي تنتج الأدوات التقليدية، بعضها يعود لأكثر من نصف قرن. اليوم، لم يتبق سوى عدد قليل منها، وتدار في الغالب بشكل فردي وبإمكانيات محدودة للغاية. وفقاً لمسح غير رسمي أجري في بداية عام 2025، انخفض عدد الورش العاملة بأكثر من 80%، بينما أغلقت ورش أخرى بسبب النزوح الداخلي أو تحول الحرفيين إلى مهن أكثر ربحاً.
الأسباب متعددة: غياب الدعم الحكومي، ارتفاع أسعار المواد الخام، انقطاع سلاسل الإمداد، وتراجع الطلب المحلي. لم يتم حتى الآن إدراج هذه الحرف ضمن أي خطة وطنية للحفاظ على التراث أو إعادة تأهيل الصناعات التقليدية.
حكاية أبو نزار… بقايا الأصابع التي تنقش على الذاكرة
في قلب إدلب القديمة، التقينا بأبو نزار الشامي، البالغ من العمر 65 عاماً، وهو أحد آخر صانعي الفخار التقليدي، الذي يحاول الحفاظ على مهنته رغم كل الصعاب. يقول: "الطين كان لغة تواصل بيني وبين الأرض… واليوم صار حواراً مع الماضي فقط". ورشته المتواضعة، التي كانت تعج بالطلاب والزبائن، أصبحت معرضاً شبه مجاني للأطفال الذين يزورونه في العطلات، ليروا كيف كان الأجداد يحولون التراب إلى تحف فنية. على الرغم من فقدانه لابنه في الحرب، وتضرر أجزاء من منزله، يصر أبو نزار على الاستمرار في المهنة، ولو كنوع من الوفاء للذاكرة.
انعكاسات ثقافية واجتماعية
اندثار الحرف لا يعني فقط اختفاء مهن تقليدية، بل يشير إلى تراجع في الروابط الثقافية بين الأجيال. الأطفال اليوم لا يعرفون الفرق بين النول والمخرطة، وغالباً ما يظنون أن الفخار يصنع بالآلات الحديثة، خاصة في المحافظات التي فقدت جزءاً كبيراً من بنيتها السكانية والثقافية بسبب النزوح والدمار.
جهود خجولة… تحركات فردية على أكتاف مرهقة
ظهرت مؤخراً بعض المبادرات الصغيرة، مثل مشروع "تراثنا بأيدينا"، الذي أطلقته مجموعة من الشباب لتعليم الأطفال أساسيات الحرف اليدوية خلال العطلة الصيفية. على الرغم من حماس القائمين عليه، يعاني المشروع من نقص التمويل والدعم الرسمي، ولا توجد أي جهة حكومية تبنت حتى الآن مشروعاً لتوثيق أو إحياء هذه الحرف ضمن خطة واضحة. كما حاول بعض الحرفيين توثيق أعمالهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لكن الوصول ظل محدوداً بسبب ضعف البنية التكنولوجية والانقطاع المستمر للإنترنت.
توصيات
- إطلاق برنامج وطني لحماية الحرف التراثية: عبر إدراجها في المناهج التعليمية، وتخصيص منح صغيرة لتأهيل الورشات.
- تفعيل الإعلام الثقافي المحلي: لإبراز أهمية الحرف اليدوية ونقل قصص الحرفيين إلى الجمهور العام.
- إنشاء أرشيف مرئي للحرف: يوثق كيفية تصنيع الفخار والنسيج والتطريز، ويتاح للأجيال القادمة كجزء من الهوية السورية.
ختاماً: بين الطين والنسيج، وما تهدم من ورشات، وما بقي من ذاكرة، تقف إدلب شاهدة على صراع الهويّة مع النسيان. هذا التقرير لا يوثّق نهاية مرحلة، بل يفتح نافذة على إمكانيات العودة، ففي كل يد تعرف كيف تصنع الجمال من التراب، هناك احتمال لانبعاث جديد… لو اختارت المؤسسات أن تُنصت لصوت أبو نزار، قبل أن يُغلق باب ورشته إلى الأبد.