ما إن اندلعت الاشتباكات في مدينة السويداء، جنوبي سوريا، حتى غصت الشاشات بمشاهد مروعة من دوي الرصاص، والأجساد المتناثرة، وصراخ النساء، ونداءات الاستغاثة. مشاهد أصبحت مألوفة للأسف، لدرجة التبلد. بالنسبة للكثيرين، سواء كانوا في باريس، برلين، طرطوس، أو حتى درعا، بدا الأمر وكأنه موسم جديد من مسلسل قديم.
لكن ما حدث لم يكن مجرد مشهد، بل حياة تنهار، ومدينة تُسحب نحو المجهول، وأناس يدفعون ثمن صراعات تتجاوز وجودهم. وكالعادة، رافق الحدث تعليقات متفجرة على وسائل التواصل الاجتماعي: تحريض، تخوين، وتبرير متبادل بين سوريين في الداخل والخارج. البعض يشمت، والبعض يدعو للثأر، وآخرون يتخيلون أنفسهم قادة ميدانيين، أو ينظرون عن الكرامة والحسم. بدا وكأن الجميع يمسك بجهاز تحكم، يختار لقطته المفضلة من الدم، ويمر سريعًا على تلك التي لا تعجبه. لكن الحقيقة أن معظمنا لم ولن يفهم تمامًا ما يعنيه العيش وسط هذا العنف.
يتذكر أحمد عسيلي حين شارك في بدايات الثورة ببعض المظاهرات المعارضة لنظام الأسد في دوما وبرزة، كانت مظاهرات محمية جيدًا، يعرف متى يهرب، وأين يختبئ، وكيف يبرر وجوده أو بمن يتصل إن تم توقيفه. ثم جاءت التجربة التي غيرت فهمه لفعل التظاهر جذريًا، حين كان داخل “سرفيس” يعبر منطقة كفربطنا أو مسرابا، ووقع حادث أمني أو مظاهرة ضخمة. تصاعدت أصوات إطلاق النار، وصرخات الناس، وتوقف “السرفيس” فجأة، وبدأ الركاب بالصراخ والهروب. هناك فقط شعر بجسده يتلمس الخطر، وواجه فناءه الذاتي، كانت أول تجربة حية له مع الواقع الدموي لفعل سياسي كان يظنه مجرد غناء وهتاف ورقص.
لم يكن منفصلًا عن الواقع بالطبع، بل كان يتابعه لحظة بلحظة، يتابع أخبار الشهداء، ويعيش في حرستا، مدينة قريبة جدًا من ساحات الموت. لكن أن تسمع عن العنف شيء، وأن تعيشه شيء آخر.
يتحدث الفيلسوف سلافوي جيجيك عن الفرق بين العنف الواقعي والعنف الرمزي، وعن كيف تخلق الشاشات مسافة آمنة بيننا وبين الفظائع، فتسمح لنا بالتلذذ بها دون أن نُصاب. هذا بالضبط ما نفعله حين نتابع أخبار سوريا المنهكة. وكما يقول المثل: “اللي بيعدّ العصي مو متل اللي بياكل الضرب”.
عاش في حرستا، لكنه لم يذق حقًا ألم الحصار الذي كانت تشهده مدينة دوما وقتها أو حتى كفربطنا، مدينتان تبعدان دقائق فقط، لكن في جحيم مختلف. فكيف لسوري يعيش في أوروبا، مهما بلغ تعاطفه، أن يشعر حقًا بما يعيشه من هم في السويداء؟ هذا الانفصال بين ما يُشاهد وما يُعاش، هو ما يفسر تصاعد التحريض من قبل كثير من السوريين. لقد تبلد الإحساس، العنف صار مؤنسنًا، مقطعًا، بلا سياق، يعاد تدويره كمحتوى ترفيهي، كما في أفلام الرعب التي تمنحنا نشوة مؤقتة لأننا نعيش الخطر دون أن نقع فيه. صارت الحرب في سوريا لكثيرين لعبة إثارة تُتابع من خلف الشاشة. بأمان نتحدث عن مقاتلي رجال الكرامة وكأنهم مقاتلون فقط لا يهابون الموت، كأن موتهم شيء طبيعي طالما ربطوا أنفسهم بالكرامة، نتحدث عن ذاك البدوي كجزء بسيط من جحافل بلا لحظات خوف أو فزع أو قصة حب.
يتذكر مريضة نفسية قالت له مرة إنها حين تكتئب تسافر إلى مناطق فقيرة جدًا في إفريقيا لتشعر بالنعمة التي تعيشها. تصرفها هذا لم يكن تضامنًا بالتأكيد، بل راحة نفسية من خلال مشاهدة ألم الآخرين. الشيء ذاته يحدث حين يتحول وجع السوريين إلى مادة للتأمل، أو للمتعة المريضة.
إن كنا صادقين مع أنفسنا، نعلم أن الوقت قد حان للخروج من هذه الدوامة. لعبة العسكر والسلاح والثأر لن تصنع مستقبلًا. حرب السويداء يجب ألا تتحول إلى فصل جديد من مسلسل لا ينتهي. إن لم نختر بوضوح طريق السياسة، الحوار، ونبذ العنف (حتى من خلف الشاشات) فإننا نعيد إنتاج نفس الجريمة.
يتوجه هنا خاصة للبعيدين عن ساحات القتال، صحيح أنهم لا يحملون السلاح وليسوا منخرطين في الحرب، لكن هذا لا يعفيهم من المسؤولية الأخلاقية. يمكنهم على الأقل أن يتفقوا على ألا يكونوا وقودًا لصراعات لا يعيشونها. أن يرفضوا أن تتحول بلادهم إلى “لعبة الحبار”، اللعبة التي يستمتع بها الجميع، ويموت فيها اللاعبون. حتى إن بدا أحد هؤلاء اللاعبين شريرًا في نظرهم، فالموت لا يمكن أن يكون دومًا الجواب، لأن الساحة، في النهاية، هي أرضهم، والخراب يصيب بيوتهم، لا شاشاتهم، وفي الحروب، لا ينجو أحد: لا المقاتل، ولا المشاهد.