في ظلّ التوترات المتصاعدة في المنطقة، والتهديدات الغربية والإسرائيلية المتزايدة لإيران، يطرح سامي حداد تساؤلات تتجاوز السياسة المباشرة، لتشمل الدور الثقافي والإعلامي في تهيئة الرأي العام لفكرة الحرب على إيران.
لم يقتصر هذا الإعداد على الجانب العسكري، بل امتدّ إلى التأثير على الوجدان الغربي والعالمي من خلال أدوات ناعمة، وعلى رأسها السينما الأميركية، وتحديداً هوليوود.
هذه المنظومة، التي غالباً ما تُصوَّر على أنها مصنع للأحلام، تحوّلت، بحسب مؤسس ويكيليكس جوليان أسانج، إلى منصة دعائية بامتياز، تنتج روايات موجّهة لتشويه صورة «العدو» خدمةً لأجندات المؤسسة الأمنية والسياسية الأميركية. وإيران هي إحدى أبرز ضحايا هذه الروايات.
من الترفيه إلى التعبئة: الدور الخفي للفن السابع
لم تعد العلاقة بين وزارة الدفاع الأميركية وهوليوود مجرد تكهنات. فتقارير موثقة ووثائق نشرتها ويكيليكس تؤكد وجود تعاون مباشر ومنهجي بين المؤسستين، يشمل مراجعة السيناريوهات، وتعديل المضامين، والمساهمة في التمويل أو تقديم التسهيلات اللوجستية مقابل التزام المنتجين بنقل صورة معينة للقوات الأميركية، أو الترويج لروايات محددة بشأن خصوم واشنطن.
من هنا، يتحوّل «العدو» إلى مادة قابلة لإعادة التشكيل وفقاً لمقتضيات اللحظة السياسية، وتصبح إيران، في خيال المشاهد، دولة مظلمة وغامضة تهدد العالم وتستحق الضربات الوقائية، خاصةً عندما تقترن هذه الصورة بقضايا مثل الإرهاب أو البرنامج النووي.
أسانج: السينما تُكتب في واشنطن وتُصوَّر في لوس أنجليس
حذّر جوليان أسانج مراراً من هذا التواطؤ بين السلطة الثقافية والسلطة الأمنية، معتبراً أنّ «ما تقدّمه هوليوود ليس خيالاً بريئاً، بل نوع من الحرب النفسية الطويلة الأمد».
لم يكتفِ أسانج بالتصريحات، بل انتقد علناً فيلم The Fifth Estate، الذي يفترض أنه يروي قصته، معتبراً إياه محاولة منظمة لتشويه سمعته وتحويل نضاله الإعلامي إلى سردية فوضوية ومضلّلة.
لكن الأهم، في نظر أسانج، لم يكن شخصياً. ما أقلقه هو كيف يُستخدم الفن لصناعة قبول اجتماعي معقّد للعدوان تحت غطاء الترفيه. ومثال إيران، في هذا السياق، هو الأكثر وضوحاً وإلحاحاً.
سرديات الحرب الناعمة: حين تصبح إيران «الخصم المناسب»
نظرة تحليلية إلى عدد من أبرز الأعمال السينمائية والتلفزيونية التي صدّرتها هوليوود في العقدين الماضيين، تُظهر حضوراً متكرّراً ومقصوداً لإيران كخصم دائم أو تهديد نووي محتمل. هذه الأعمال لا تذكر اسم «إيران» دائماً، لكنها تستبطن دلالاته بوضوح في المضمون، وفي شكل العدو، وفي سياق التهديد.
يُظهر فيلم Top Gun: Maverick (2022)، على سبيل المثال، «العدو» على أنه قوة مجهولة تطوّر منشأة نووية سرية تحت الجبال، ويُكلَّف الطيارون الأميركيون بمهمة جريئة لتدميرها.
ورغم أن الفيلم لا يسمّي الدولة المعنية، فإنّ خصائص الهدف وموقعه وتوقيت ظهوره تلمّح بوضوح إلى إيران، وتحديداً منشأة «فوردو» النووية الواقعة تحت الأرض.
أما مسلسل Homeland، الذي استمر لثمانية مواسم، فقد بنى حبكته بالكامل على التهديدات القادمة من الشرق الأوسط، مع تركيز على إيران كدولة راعية للإرهاب، يتداخل فيها السياسي بالديني، والعسكري بالاستخباراتي، في صورة تضاعف منسوب الشكّ والخوف من «العدو الفارسي».
ولا تقل أهمية عن ذلك أعمال مثل «24» الذي ربط مراراً بين تهديد الأمن القومي الأميركي وبين خلايا أو شخصيات على صلة بإيران.
حتى فيلم Argo (2012)، الذي حاز جوائز أوسكار، قدّم رواية أحادية لعملية تهريب ديبلوماسيين أميركيين من طهران بعد الثورة، بأسلوب درامي يُشيطن الإيرانيين كمجتمع غاضب وعدائي، من دون التطرّق إلى الجذور التاريخية للأزمة، مثل دعم الـ «سي. آي. إيه» لانقلاب الشاه عام 1953.
ثقافة القصف المُبرَّر
ما يُبنى على هذه الأعمال ليس مجرد انطباع عابر، بل قناعة تدريجية بأنّ «الضربة ضرورية» وأن إيران لا تتجاوب مع الحوار، وأنّ الحرب – إن وقعت – فهي آخر الدواء. الجمهور الغربي الذي يستهلك هذه الأعمال، عاماً بعد عام، يدخل في عملية تطبيع عميقة مع فكرة أنّ العدوان ليس فقط مشروعاً، بل مطلوب.
وحين تصبح الحرب فعلاً واقعاً، لا يُفاجأ أحد، ولا يعبّر كثيرون عن رفضهم أو قلقهم، لأن الوعي قد تمّت هندسته سلفاً، والشاشة أدّت وظيفتها الكاملة في صناعة العدو وتبرير الضربة.
حين يُستَكمل الفيلم على أرض الواقع
بينما كانت تُستهدف منشآت نووية إيرانية منذ مدة، وتتعالى التهديدات بتوسّع الحرب إلى الإقليم بأسره، تبدو المقارنة بين الخيال السينمائي والواقع العسكري أكثر من مجرد مصادفة. فالمشهد الذي تمّت محاكاته درامياً قبل سنوات، يُنفَّذ اليوم بدقة لافتة، من نوعية الأهداف إلى طبيعة التسليح وحتى سردية «الضربة الدقيقة التي تمنع كارثة كبرى».
لكن السؤال الأعمق يبقى: كم من القبول الشعبي الغربي لهذا العدوان تمّت صناعته ثقافياً قبل أن يُفرض عسكرياً؟ وكم من الحروب المقبلة ستُمهَّد لها عبر الشاشات قبل أن تبدأ في السماء؟
إعلام الحرب أخطر من سلاحها
ما كشفه أسانج، وأكّدته تجارب السنوات الماضية، يجب أن يدفعنا إلى مساءلة دور السينما في بناء سرديات العداء وتطبيع فكرة الصراع. فالهجمات لا تبدأ من الطائرات، بل من النصوص. والحروب لا تندلع على الحدود فقط، بل في العقول أولاً.
في عالم اليوم، حيث الصورة تُستثمر أكثر من الحقيقة، ويُعاد تشكيل الوعي في غرف المونتاج أكثر مما يُبنى في الميادين، تصبح المعركة على المعنى أخطر من المعركة على الأرض.
إننا بحاجة إلى عين ناقدة، لا فقط للمشهد السياسي، بل أيضاً للمشهد الثقافي الذي يروّج له، لأنّ من يكتب السيناريو في لوس أنجليس قد يُمهّد الطريق لمن يضغط الزر في واشنطن.