عنب بلدي – موفق الخوجة | بيسان خلف
عاد اتفاق 10 آذار إلى طاولة المفاوضات بين دمشق و"قوات سوريا الديمقراطية" (قسد)، بعد فترة تعثر دامت أربعة أشهر بسبب خلافات بين الطرفين. تشير التصريحات المتبادلة إلى تحركات جديدة في مسار المفاوضات المعقد، وسط تباينات مستمرة وإشارات إلى إمكانية الوصول إلى تفاهمات جزئية.
بينما تسعى الأطراف لبناء جسور للحل استنادًا إلى اتفاق الرئيس السوري، أحمد الشرع، وقائد "قسد"، مظلوم عبدي، الذي وعد بدمج المؤسسات وضمان الحقوق، لا تزال ملفات أساسية مثل المسألة العسكرية ومفهوم اللامركزية عالقة.
يتناول هذا الملف تفاصيل التصريحات الأخيرة، وخلفيات الاتفاق، والعوامل المؤثرة في مسار التفاوض، خاصة بعد أحداث السويداء.
خطوة إلى الأمام
مقابلة مظلوم عبدي مع قناة "الحدث" السعودية حملت مؤشرات على تفاهمات جديدة مع الحكومة في دمشق. تطرق عبدي إلى مواضيع رئيسة، كاشفًا عن تفاهمات مبدئية حول الثقافة واللغة، وتقارب في مفاهيم مثل اللامركزية. بالمقابل، ما زالت ملفات دمج المؤسسات العسكرية قيد التفاوض.
سبق هذه التصريحات تأكيد من دمشق على عدم وجود تقدم في المفاوضات، وإشارات سلبية من جولة مفاوضات 10 تموز. بالإضافة إلى ذلك، ذكر المبعوث الأمريكي إلى سوريا، توماس براك، مماطلة "قسد" في الاندماج.
بدأت المفاوضات بعد اتفاق "تاريخي" بين أحمد الشرع ومظلوم عبدي في 10 آذار، تضمن دمج الأجسام المدنية والعسكرية مع مؤسسات الدولة، وضمان حقوق المجتمع الكردي وجميع السوريين في التمثيل والمشاركة.

قوى الأمن الداخلي (أسايش) الرديفة لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) تنظم عرضًا عسكريًا في القامشلي بعد أحداث السويداء – 21 تموز 2025 (المصور دليل سلميان/ إكس)
حتى نهاية العام
بحسب البنود، تم الاتفاق على وقف إطلاق النار، وتعمل اللجان التنفيذية على تطبيق الاتفاق قبل نهاية العام الحالي. وعد عبدي بتطبيق جميع بنود الاتفاقية قبل نهاية العام، مؤكدًا التواصل اليومي مع الحكومة السورية، إلا أن اتفاق 10 آذار يسير ببطء.
الباحث في مركز "عمران للدراسات"، أسامة شيخ علي، قال إن تصريحات عبدي حملت إشارات إيجابية حول اللامركزية والحقوق الثقافية واللغوية، معتبرًا أنها نقاط يمكن البناء عليها للوصول إلى التفاهم، مؤكدًا أن التوصل إلى اتفاق ممكن بتنازلات من الجانبين.
إيجابية تقابل ببطء على الأرض
تقابل "الإيجابية" في "قسد" بتصريحات سلبية من الحكومة، حيث ألمح مدير إدارة الشؤون الأمريكية في وزارة الخارجية والمغتربين، قتيبة إدلبي، إلى تعثر المفاوضات، مؤكدًا أن اتفاق 10 آذار يحتاج إلى رغبة حقيقية، وأن الحكومة ما زالت تؤمن بالحل السياسي مع "قسد".
وأضاف إدلبي أن مشكلة المفاوضات تكمن في غياب رؤية موحدة ضمن قيادة "قسد"، وأن باريس مستعدة للضغط عليها للوصول إلى الحل الذي يريده السوريون، لافتًا إلى أن المطلوب الآن هو أن تأتي "قسد" إلى الطاولة، من خلال الوساطة الفرنسية والأمريكية.
من جانبه، قال توماس براك إن الحكومة السورية متحمسة لضم "قسد"، بينما الأخيرة بطيئة في القبول والتفاوض، موجهًا نصيحة لـ"قسد" بالإسراع، معتبرًا أن الطريق الوحيد أمامها هو دمشق.
ألغيت جولة مفاوضات في باريس بطلب من دمشق بسبب أحداث السويداء.

قائد قوات سوريا الديمقراطية (قسد) مظلوم عبدي يحضر مقابلة مع وكالة رويترز في الشدادي بسوريا – 13 حزيران 2025 (رويترز/ أورهان قريمان)
دير الزور.. بوادر تفاهم مرتقب
تسيطر "قسد" على شمال شرقي سوريا، باستثناء مدينتي رأس العين وتل أبيض. وألمح مظلوم عبدي إلى توحيد مناطق ضفتي نهر الفرات في دير الزور، ما يشي ببوادر دمج للمؤسسات هناك، وهو ما ذكره أمام العشائر العربية في المنطقة.
يرى أسامة شيخ علي أن حديث عبدي عن توحيد ضفتي دير الزور قد يكون إشارة إلى تفاهمات قد يعلن عنها قريبًا، واعتبرها خطوة أولى واختبارًا لدمج المؤسسات الإدارية والأمنية والعسكرية ريثما يتم التحضير لإدماج الحسكة والرقة.
اجتماع تمهيدي
في اجتماع في الشدادي بريف الحسكة، اجتمع مظلوم عبدي مع قادة عسكريين، ورؤساء المجالس المحلية، ووجهاء عشائر من محافظة دير الزور، بهدف الاتفاق على انسحاب "قسد" من كامل ريف دير الزور، تمهيدًا لتسلّم الحكومة السورية إدارة المدينة وريفها بالكامل، بفعل ضغوط أمريكية على "قسد".
الانسحاب المحتمل من دير الزور لن يكون فوريًا، بل سيمر بمرحلة تجريبية لا تتجاوز ثلاثة أشهر، يتم خلالها تقييم التبعات الميدانية والإدارية، وتبعًا لنتائج هذه المرحلة، سيُحسم مستقبل السيطرة في محافظتي الرقة والحسكة أيضًا.
لا نية رسمية للانسحاب
قال مصدر عسكري في "قسد" إن تصريحات عبدي تؤكد ضرورة التوافق على وحدة سوريا، لكنها لا تشير إلى انسحابها من دير الزور، مشيرًا إلى أن النقاشات بين الحكومة السورية و"قسد" تدور حول دمج المؤسسات وليس تسليمها.
يرى المحلل السياسي حسن النيفي أن "قسد" لا تمانع تسليم محافظة دير الزور للحكومة الجديدة، وخاصة الدوائر الخدمية، ولكن ثمة مسألتان هما موضع الخلاف، السلاح الذي تملكه "قسد"، وإدارة آبار النفط والغاز.
رفض شعبي ينذر بالتصعيد
يترافق الرفض الشعبي لوجود "قسد" في دير الزور، مع توترات أمنية في المنطقة، منها اشتباكات بين القوات الحكومية المتمركزة غرب نهر الفرات و"قسد" شرقه، مما يثير المخاوف حول اندلاع أعمال عسكرية تجبر "قسد" على الانسحاب بعملية عسكرية.
كما تصر "قسد" على الاحتفاظ بدير الزور تخوفًا من عودة نشاط تنظيم "الدولة الإسلامية" إلى المنطقة.
وحول التوترات الأمنية هناك قال مصدر عسكري في "قسد" إن التوترات الأمنية في دير الزور مقعدة، أحد أسبابها الرئيسة هو استياء السكان المحليين الذين يطالبون بخروج "قسد" من مناطقهم، مع توجيه الاتهامات لـ"قسد" بالمسؤولية عن الانفلات الأمني واغتيال ناشطين ووجهاء عشائر في دير الزور.
المحلل السياسي حسن النيفي، يرى أن المعطيات الميدانية تؤكد أن عودة تنظيم "الدولة" إلى المشهد، وبالقوة التي كان يمتلكها قبل 2018 تبدو مسألة غير واقعية.
مبادرة سابقة في حلب
سبقت مبادرة دير الزور اتفاقيات مشابهة في حيي الشيخ مقصود والأشرفية بالقسم الشمالي من مدينة حلب، مطلع نيسان الماضي، تضمن خروج قوات "قسد" العسكرية وبقاء "قوى الأمن الداخلي" (أسايش) تمهيدًا لدمجها ضمن صفوف وزارة الداخلية السورية.
وحتى اللحظة، ما زالت قوات "أسايش" تدير الملف الأمني في حين تدير المجالس المحلية الملفات الخدمية، وسط هدوء واستقرار في الحيين.
كيف أثرت السويداء على المفاوضات
ألقت أحداث السويداء بظلالها على مسار المفاوضات بين الحكومة و"قسد".
قائد "قسد" اعتبر أن أحداث السويداء إشارة إلى أهمية التفاوض والوصول لاتفاق، والابتعاد عن الحل العسكري.
في هذا السياق، يعتقد الباحث، شيخ علي، أن دمشق ستكون أكثر حذرًا بالتعامل مع شرق الفرات، لأن ما حدث في الساحل وبعدها في السويداء، وتداعيات هذين الحدثين كبير جدًا على مستوى سوريا وعلى الصعيد الخارجي.
اللامركزية تتبلور
شكلت قضية اللامركزية و"الفدرلة" عامل كبح للمفاوضات بين الجانبين، إذ تصر "قسد" على هذا المبدأ، بينما تشدد دمشق على مركزية الدولة.
عبدي في مقابلته مع "الحدث"، ألمح إلى تغير في مفهوم "قسد" للامركزية، قائلًا إن بعض الوزارات لا بد أن تكون مركزية، خاصة الوزارات السيادية.
الباحث في مركز "عمران" أسامة شيخ علي، اعتبر أن تصريحات عبدي، وقبلها إلهام أحمد، حول اللامركزية الإدارية وتوسيع الحكم المحلي، بمقابل الحديث عن مركزية الملفات السيادية، مؤشر إيجابي يمكن التفاهم عليه مع دمشق.
صعوبات في دمج الجيش
يعد دمج المؤسسات العسكرية التابعة لـ"قسد" في الجيش السوري الجديد، إحدى أبرز العقبات في اتفاق 10 من آذار الماضي.
عبدي، ورغم تأييده ما تنشده الحكومة السورية من "حكومة واحدة وجيش واحد وعلم واحد" يشير إلى عقبات أمام دمج مؤسسات "قسد" العسكرية، معتبرًا أن دمج 100 ألف مسلح في وزارة الدفاع السورية "عملية كبيرة" وتحتاج إلى بحث ومشاورات.
الباحث أسامة شيخ علي قال إن هناك الكثير من التفاصيل غير معروفة حتى الآن، متسائلًا، كيف سيكون شكل الدمج العسكري في ظل وجود "مجلس دير الزور العسكري"، إضافة إلى المؤسسات الأمنية والاستخباراتية داخل "قسد" و"الإدارة الذاتية".
ما الفرق بين اللامركزية السياسية واللامركزية الإدارية؟
في النقاشات حول مستقبل إدارة الحكم، لا سيما في الدول الخارجة من نزاعات أو تلك التي تسعى لإعادة تنظيم سلطاتها، كثيرًا ما يُطرح مصطلح “اللامركزية” كمفتاح للإصلاح الديمقراطي وتحقيق التوازن بين السلطة المركزية والسلطات المحلية. لكن ما لا يُدرك دائمًا هو أن اللامركزية لا تعني أمرًا واحدًا، بل لها أشكال متعددة أبرزها اللامركزية السياسية واللامركزية الإدارية، ولكل منهما طبيعة قانونية ومؤسسية تختلف بشكل جذري.
أولًا : اللامركزية السياسية.. إدارة محلية بصلاحيات تشريعية ودستورية
اللامركزية السياسية هي نظام حكم يُمنح فيه الإقليم أو الولاية أو المنطقة استقلالًا ذاتيًا واسعًا، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا، وذلك ضمن حدود جغرافية واضحة. وتتمتع الكيانات المحلية التي تُمارس هذا النوع من اللامركزية بـ:
- سلطات تشريعية خاصة تصدر قوانينها المحلية.
- حكومات وبرلمانات إقليمية تُنتخب بشكل مستقل.
- دستور محلي ينظّم عمل السلطات داخل الإقليم، بشرط ألا يتعارض مع الدستور الاتحادي للدولة.
وغالبًا ما توجد اللامركزية السياسية في الدول ذات الطابع الاتحادي أو المركب (الفيدرالي)، مثل الولايات المتحدة وألمانيا وسويسرا، حيث تتقاسم الحكومة المركزية والسلطات الإقليمية الصلاحيات وفق اتفاق دستوري.
ويُعد هذا الشكل من اللامركزية أكثر عمقًا وتأثيرًا، لأنه يقيّد تدخل الحكومة الاتحادية في شؤون الأقاليم إلا في حالات يحددها الدستور، كما يصعب تعديل صلاحياته بسبب الطابع الدستوري الذي تستند إليه.
ثانيًا: اللامركزية الإدارية.. صلاحيات خدمية تحت إشراف مركزي
في المقابل، اللامركزية الإدارية هي نظام يمنح الإدارات المحلية أو المجالس البلدية قدرًا من التفويض في إدارة شؤونها، لكن ضمن إطار إداري ومالي محدود تحدده الحكومة المركزية.
وتتعلق الصلاحيات عادة بـ:
- الخدمات العامة مثل التعليم والصحة والنقل والمرافق.
- تخصيص الموارد والميزانيات المحلية.
- إدارة الموارد البشرية والخطط التنموية.
لكن بخلاف اللامركزية السياسية، فإن الإدارات المحلية في هذا النموذج لا تملك سلطات تشريعية مستقلة، بل تُطبق القوانين الوطنية نفسها التي تسري على كامل البلاد، وتبقى خاضعة لرقابة السلطة المركزية، بل ويمكن تعديل أو إلغاء تفويضها بقرارات إدارية أو قوانين عادية.
وتطبّق اللامركزية الإدارية في كل من الدول الموحدة (مثل فرنسا ومصر) وكذلك في الدول الفيدرالية، لكنها لا تصل إلى درجة الحكم الذاتي.
جوهر الفرق: الدستور مقابل القرار الإداري
يتجلى الفرق المحوري بين النوعين في مصدر القوة والضمانات:
- اللامركزية السياسية تستمد شرعيتها من نصوص دستورية يصعب تعديلها.
- اللامركزية الإدارية تُنظَّم عبر قوانين إدارية يمكن تغييرها أو تقليصها بحسب توجهات الحكومة.
كما أن الأولى تُحدّ من رقابة المركز على الأقاليم وتضمن التعددية القانونية والتشريعية، بينما الثانية تُبقي على وحدة القانون والقرار، وتُخضع الإدارات المحلية لسلطة الإشراف والمساءلة من قبل العاصمة.
سواءً تعلق الأمر بإعادة هيكلة الحكم المحلي أو بوضع مسارات انتقال سياسي في سوريا أو أي دولة أخرى، فإن فهم الفوارق بين أشكال اللامركزية يشكّل خطوة ضرورية لفهم حدود الصلاحيات، وضمان تمثيل حقيقي للمجتمعات المحلية في صنع القرار، وتفادي الخلط الذي قد يؤدي إلى مخرجات سياسية وإدارية مشوّهة أو مضلّلة.