يحيى دبوق – يتعمق الخلاف بين المؤسسة العسكرية والقيادة السياسية في إسرائيل حول مستقبل الحرب على قطاع غزة. بينما تسعى حكومة بنيامين نتنياهو لفرض خطة عسكرية تقضي باحتلال الجيش لقطاع غزة بالكامل، تصر القيادة العسكرية على تقليص العمليات الميدانية والتركيز على الحصار، مبررة ذلك بأن أي توسيع للعمليات القتالية في ظل الظروف الضاغطة والمنهكة للجيش سيؤدي إلى نتائج كارثية من حيث التكلفة والتبعات الاستراتيجية.
مع تمسك كل طرف بموقفه، وصل الخلاف بينهما إلى حد التخوين، في وقت يبدو فيه أن الجيش يفقد دوره وتأثيره في صنع القرار، لصالح أجندات أيديولوجية ومصالح شخصية أصبحت جزءاً لا يتجزأ من أدوات الحرب والسلام في الكيان الإسرائيلي. ما يجري بين نتنياهو ورئيس أركان جيشه، إيال زامير، ليس مسرحية أو تبادل أدوار، بل أزمة قيادة نابعة من تناقض جوهري بين الرغبة في تحقيق نصر مطلق وواقع عسكري لا يحتمل المزيد من التصعيد والإنهاك.
ينتظر نتنياهو نصراً ينقذه سياسياً ويحقق له المجد الذي يتغلب على كل التحديات، بينما يسعى وزراء اليمين المتطرف لتحقيق أحلامهم الأيديولوجية. أما رئيس الأركان، فيريد نصراً ينهي التهديد الأمني والعسكري كما تراه المؤسسة العسكرية، ويحرر الأسرى الإسرائيليين أحياء، ويرسخ أمن إسرائيل المستدام.
الخلاف ليس على النيات، بل على الإمكانات. يرى نتنياهو وفريقه أن احتلال غزة ليس خياراً عسكرياً يفتح باب «النصر المطلق» فحسب، بل هو أيضاً «مطلب سياسي وجودي» يكفل تجنيب الحكومة الانهيار، علماً أن هذه الأخيرة تعتمد على اليمين المتطرف بشكل كامل تقريباً، بعد انسحاب الأحزاب الحريدية.
أي تسوية لا تشمل تفكيك حركة «حماس» و«سحقها» بشكل واضح ستقرأ لدى اليمين الإسرائيلي كهزيمة أمام الحركة والفلسطينيين، مما يسقط حكومة نتنياهو وأحلامه. اليمين غير معني بالقبول بأي خيار مبني على تسويات وحلول وسط، وأي حل غير تحقيق الأهداف الثلاثة التي أعاد تأكيدها في اليومين الماضيين – تحطيم «حماس» وتحرير الأسرى وتأمين الحدود – لن يتلاءم مع مصلحته.
يعيش الكيان الإسرائيلي صراعاً بين رغبة في النصر المطلق وواقع لا يسمح به.
يرفض الجيش الإسرائيلي خطة احتلال كامل قطاع غزة لأسباب عدة، منها أنه بعد قرابة عامين من الحرب، لم تتمكن إسرائيل من هزيمة «حماس» أو إضعاف إرادتها، وأن جيش الاحتلال بات منهكاً ومستنزفاً، وسط حرب لم يُعدّ بنيوياً لها، وهو ما يترجم في تراجع الدافعية، وإنهاك العديد الذي يستدعى مراراً، والنقص في التدريبات، والخشية من قتال غير مجد، وحالات انتحار باتت ظاهرة. لكن نتنياهو يرى أن الفرصة حانت لـ«إتمام المهمة» واحتلال القطاع، وتدمير البنية التحتية العسكرية لـ«حماس»، وفرض هيمنة أمنية دائمة على غزة.
في المقابل، تتقدم الإشكاليات التي يطرحها الجيش الإسرائيلي في الجلسات المغلقة، والتي تسربت إلى الإعلام العبري نتيجة الخلافات، وعلى رأسها السؤال المتكرر منذ بدء الحرب: «ماذا بعد؟». لا توجد إجابات؛ إذ لا خطة لإدارة غزة في اليوم الذي يلي الاحتلال الشامل، ولا لإعادة توطين مليون ونصف مليون مدني فلسطيني؛ كما أنه لا بديل جاهزاً من «حماس»، ولا دعم دولياً لمواصلة الحرب إلا ما يكفي نتنياهو، أي ذلك الآتي من الرئيس الأميركي، دونالد ترامب.
يضاف إلى ذلك أن الجيش وصل إلى «نقطة حرجة من الاستنزاف»، مما اضطر قيادته إلى إلغاء «تمديد الأمر 8»، ورفض تجنيد مزيد من جنود الاحتياط، بعدما أظهرت التقييمات أن تمديد الخدمة أكثر من اللازم يهدد بانهيار معنويات الجيش ودافعية المجندين لتلبية أوامر الاستدعاء، في حين أن الوحدات القتالية في غزة تعاني إرهاقاً نفسيّاً ولوجستيّاً لا يمكن تجاهله.
لا يرفض الجيش الإسرائيلي الهيمنة الأمنية على غزة، لكنه لا يرى في الاحتلال الواسع للقطاع شرطاً لتحقيقها؛ إذ يمكن السيطرة على غزة من دون الانتشار فيها، وذلك عبر نظم رقابة إلكترونية، وأنفاق ملغمة، وقوات كوماندوس محدودة، وحصار مائي وكهربائي، من دون الاضطرار إلى مغامرة عسكرية غير محسوبة التكاليف، يخسر فيها السيطرة، ومعها الأسرى الإسرائيليين، وقدرته على الوفاء بمهامه في الجبهات الأخرى.
الخطة البديلة لدى الجيش ليست أقل سوءاً بالنسبة إلى الغزيين، فهي لا تنهي الحرب ولا المعاناة، بل تتبنى «الحصار المشدد» لثلاث جبهات هي: مدينة غزة ومخيمات الوسط وجنوب القطاع، والقصف اليومي المكثف على «أهداف أرضية وتحت أرضية»، وعمليات توغل محدودة لاستهداف قدرة «حماس» ماديّاً وبشريّاً، واستمرار تدمير البنية التحتية والمستشفيات والمدارس، بما يشمل منع دخول الوقود والغذاء والدواء؛ أي أن الجيش يدعو إلى استنزاف طويل الأمد، يُدار عن بعد، ويقلل الخسائر الإسرائيلية.
السؤال الآن: هل ينجح نتنياهو أم زامير في فرض رأيه؟ الجواب ليس بسيطاً، والفرضيات متداخلة. قد ينجح الأول في تطبيق خطته إذا تمكن من عزل زامير وتعيين بديل له لينفذ المهمة. لكن ذلك لا يضمن إجبار الجيش على تنفيذ مهام يرى أنها كارثية عليه وعلى مصلحة إسرائيل. وعليه، فإن فرضية أن ينجح زامير في إحباط خطة نتنياهو ليست محدودة، وإن لم يكن في مقدوره وقف الحرب.
أخبار سوريا الوطن١-الأخبار