على الرغم من قيمته الاستراتيجية الكبيرة، لا يزال المجال الجوي السوري يعتبر من الأصول السيادية التي لم تستثمر بالشكل الأمثل حتى الآن. فموقع سوريا الجغرافي المتميز، الذي يربط بين قارات آسيا وأوروبا وأفريقيا، يمنحها فرصة استثنائية لتحويل أجوائها إلى ممر جوي دولي مختصر وفعال، يشكل بديلاً منافساً للمسارات الجوية المزدحمة في منطقة شرق المتوسط والخليج.
الدكتور المهندس سلمان ريا، المتخصص في إدارة النقل متعدد الوسائط، أوضح أنه في الظروف الطبيعية، يمكن للمجال الجوي السوري أن يساهم في تقليل المسافات وتخفيض التكاليف التشغيلية لشركات الطيران، بالإضافة إلى تحقيق إيرادات كبيرة من رسوم عبور الأجواء، ودعم قطاعات السياحة والخدمات الجوية والتجارة العابرة. إلا أن تحقيق هذه الفوائد يتطلب ضمان سلامة الملاحة الجوية بشكل كامل، وتوفير بنية تحتية متطورة، وإدارة جوية احترافية تتوافق مع المعايير التي تحددها منظمة الطيران المدني الدولي (ICAO).
واقترح د. ريا إنشاء مطار دولي حديث في سهل عكار نظراً لموقعه المتوسط بين سوريا ولبنان.
وأشار د. ريا إلى أن هذا التحول يتطلب سلسلة من الخطوات، تبدأ بتحديث شامل للبنية التحتية التقنية، وتطوير منظومات الرادارات والمراقبة الجوية، وربطها بشبكات اتصالات مشفرة وآمنة، وتحديث أنظمة إدارة الحركة الجوية لتتوافق مع أنظمة الطيران المعتمدة في أوروبا وآسيا. كما أكد على أهمية اعتماد تقنيات الملاحة عبر الأقمار الصناعية (GNSS) لتحسين الدقة وتقليل الاعتماد على البنية التحتية الأرضية.
وشدد على أن الكوادر البشرية لا تقل أهمية عن البنية التحتية التقنية، وأنه يجب إنشاء مراكز تدريب إقليمية للمراقبين الجويين والكوادر الفنية وفقاً لمعايير ICAO، وبالشراكة مع الاتحاد الدولي للنقل الجوي (IATA)، الذي يلعب دوراً مكملاً في تطوير الكفاءات ودمج سوريا في شبكة الملاحة العالمية. كما اقترح إطلاق برامج شراكة مع شركات طيران إقليمية ودولية ومراكز تدريب معترف بها لبناء قدرات وطنية قادرة على إدارة المجال الجوي بكفاءة واستقرار.
على الصعيد الدولي، أكد على ضرورة إعادة تفعيل التعاون الفني والعملي مع ICAO وتحديث اتفاقيات العبور الجوي، بالتوازي مع التنسيق الفني مع IATA لضمان إدراج المجال الجوي السوري مجدداً ضمن خرائط الطيران العالمية وخطط المسارات الموصى بها. كما أشار إلى أهمية التعاون مع مزودي خدمات الملاحة الجوية في الدول المجاورة لتوحيد المسارات وتنظيم الأحمال وتحقيق التكامل الملاحي في المنطقة.
ولتعزيز مكانة سوريا كمركز عبور، اقترح د. ريا إنشاء مطار دولي حديث في سهل عكار، نظراً لموقعه المتوسط بين سوريا ولبنان، وما يتيحه من إمكانيات للتكامل اللوجستي المستقبلي مع مطار القليعات اللبناني، ليتم تطويره كمركز عبور إقليمي يتحول إلى منطقة حرة متعددة الوظائف تضم مرافق للشحن والصيانة وخدمات المسافرين والإقامة الفندقية وجميع الخدمات الترفيهية اللازمة. وأوضح أن هذا المطار يمكن أن يشكل نقطة توزيع جوية بين الشرق والغرب، تخدم شركات الطيران منخفضة التكلفة، ونقل الحجاج والمعتمرين، وتربط الداخل السوري بالأسواق اللبنانية والخليجية.
وأكد على أن جذب الاستثمار الحقيقي في قطاع الطيران يتطلب إصلاحاً تشريعياً عميقاً، يبدأ بإصدار قانون خاص بالاستثمار في النقل الجوي، يحدد الحوافز والإعفاءات والضمانات، ويسمح بإنشاء شراكات بين القطاعين العام والخاص في تطوير وتشغيل المطارات. كما شدد على ضرورة تأسيس هيئة طيران مدني مستقلة تتمتع بصلاحيات تنظيمية وفنية وفقاً لمعايير ICAO، تضمن الشفافية وتمنع تضارب المصالح، بالإضافة إلى توقيع اتفاقيات دولية لحماية الاستثمار وتجنب الازدواج الضريبي، وتوفير آليات موثوقة لتسوية النزاعات، مثل أنظمة التحكيم الدولية المعتمدة.
ويرى ريا أنه لكي تتحول هذه الرؤية إلى واقع، لا بد من إشراك القطاع المصرفي في تمويل مشاريع النقل الجوي، من خلال أدوات تمويل مرنة ومبتكرة، مثل إنشاء صناديق قطاعية لتمويل البنية التحتية، أو إصدار سندات مطارية وصكوك إسلامية. كما اقترح تطوير أنظمة دفع إلكترونية موحدة للرسوم والخدمات الجوية، وتسهيل التحويلات العابرة للحدود، وفتح حسابات مصرفية متعددة العملات للمستثمرين والمشغلين، مع توفير دعم ائتماني مخصص لشركات الشحن والخدمات الجوية.
وختم د. ريا بأن السيادة الجوية لا تكتمل من دون أمان وتخطيط، ولا تترجم إلى نمو من دون تشريعات وضمانات. ومع التراجع الحاد في موارد الدولة التقليدية، واشتداد التنافس على ممرات التجارة والنقل الإقليمية، فإن المجال الجوي السوري يمكن أن يشكل أحد أعمدة النهوض الاقتصادي، إذا أحسن توجيهه واستثماره. فبوجود الأمن والرؤية والحكم الرشيد، يمكن لسوريا أن تعود نقطة ربط حيوية بين الشرق والغرب، وتستعيد سيادتها من السماء، قبل الأرض.
اخبار سورية الوطن 2_وكالات _الحرية