يبدو الوضع في دمشق أكثر حدة، حيث استحوذت العاصمة على النفوذ والسلطة والموارد والقرار على مدى العقود الماضية، مما أدى إلى تفاقم الإشكاليات في علاقتها بالمناطق السورية الأخرى، وهي مشاكل ترسخت خلال سنوات الثورة السورية. لقد كانت دمشق بمثابة واحة للفرص والعمل والاستقرار، في مقابل واقع سوري صعب تجلى في تباينات بين المناطق، مع الحفاظ على قاسم مشترك هو حالة التصحر التي طغت على مجالات العمل الاقتصادي والاجتماعي والمدني والسياسي.
سناك سوري _ بشار مبارك
في عام 1947، نشر عالم الجغرافيا الفرنسي جان فرانسوا جافيير كتابه "باريس والصحراء الفرنسية"، الذي أثار نقاشًا واسعًا حول التخطيط الإقليمي والتنمية المكانية. انتقد جافيير تركيز الثروة والنفوذ في باريس، معتبرًا أن الهجرة التدريجية من مناطق فرنسا الأخرى إلى باريس هي النتيجة الطبيعية لهذا التركيز، مما أثار نقاشًا حول اللامركزية والتفاوت في النمو الإقليمي. أسس هذا الكتاب لمقاربات جديدة في التقسيمات الإدارية وقانون الإدارة المحلية والانتقال إلى مفهوم التخطيط الإقليمي.
هجرة صوب دمشق
لم تتوقف الهجرة إلى دمشق عبر تاريخها، وكانت تعكس السياق السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي حكم المدينة ومحيطها. بعد الاستقلال، ازدادت هذه الهجرة بشكل مطرد، معبرة عن مرحلة جديدة في تاريخ سوريا والمنطقة.
ازدحام المواصلات في دمشق _ سناك سوري
تمثلت الهجرة بمنحيين أساسيين: الأول هو هجرة الريف إلى المدينة، والثاني هو وصول الريف إلى السلطة، خاصة بعد تولي حزب البعث السلطة بعد عام 1963، حيث استقر العديد من القيادات البعثية السياسية والعسكرية في دمشق وبدأوا في تغيير بنية الدولة والحكم، مما استدعى الحاجة إلى قاعدة بشرية كبيرة تدعم هذا التغيير. وجدت سلطة البعث ضالتها في مختلف المناطق السورية التي كانت تعاني من طاقات بشرية تبحث عن فرصة للارتقاء والتطور الاجتماعي.
مقالات ذات صلة
قفزت مدينة دمشق من مدينة يعد سكانها 800 ألف نسمة عام 1970 إلى ما يقارب ثلاثة ملايين نسمة في بداية القرن الحالي توزعوا بين دمشق ومحيطها الذي أصبح جزءاً لا يتجزأ منها بشار مبارك
أُدير هذا المد الديموغرافي من خلال قنوات عديدة، بدءًا من الجيش والأمن والمؤسسات الحكومية والمشاريع العمرانية والاقتصادية. عزز كل هذا من قوة دمشق الجاذبة للطامحين والحالمين، وكانت دمشق واحة الفرص ضمن صحراء سورية اتسعت نتيجة لاهتمام نظام البعث الكبير بدمشق والسعي لتأمين المتطلبات المتزايدة للمدينة، التي استهلكت كل مقدراتها دون القدرة على كبح جماح هذا الاستقطاب على حساب المناطق الأخرى.
دمشق لم تعد فيحاءً
نتيجة لهذه العوامل، قفز عدد سكان دمشق من 800 ألف نسمة عام 1970 إلى حوالي ثلاثة ملايين نسمة في بداية القرن الحالي، مما أدى إلى توسع عمراني كبير لاستيعاب هذه الكثافة السكانية. في ظل غياب سياسات تخطيط مكانية حقيقية، كانت "فيحاء بردى" ضحية للتشوه العمراني، حيث بدأ الحزام الأخضر بالتآكل والتراجع بسبب سياسات فاشلة وعمليات فساد وتواطؤ بين السلطات المحلية وتجار العقارات، مما أدى إلى ضغط على البنى التحتية المتهالكة والموارد الأساسية، ودخلت دمشق خطر العجز المائي بسبب الاستنزاف العشوائي لمصادر المياه والتلوث.
موجات الهجرة إلى دمشق لم تنقطع طوال سنوات الثورة السورية، وزادت حدة بعد سقوط نظام الأسد وقدوم سلطة جديدة، فكان من الطبيعي أن يشكل هذا السياق الجديد فرصة للكثيرين من أنصارها والمحسوبين عليها بشار مبارك
في مقابل الأحياء الراقية، أغمضت السلطات المحلية أعينها عن مساحات واسعة من السكن العشوائي، الذي أصبح الهوية الجديدة لدمشق ومحيطها ومثالًا للفشل المتعمد لمحاولات التخطيط العمراني. حتى قلب المدينة التاريخي لم يسلم من شهوة الربح، وهُدمت العديد من المباني التاريخية، وفقدت دمشق هويتها العمرانية.
معاون محافظ دمشق في منتدى الاستثمار السعودي العربي _ فايسبوك
بدلاً من ذلك، بدأت المجتمعات المحلية التي شكلت عامل الغنى لدمشق أكثر انكفاءً باتجاه هوياتها المحلية والإحساس بالمظلومية والإقصاء وعدم الانتماء، مما زاد من هشاشة هذه المجتمعات في ظل عدم قدرة أو عدم رغبة السلطات المحلية في إدارة وظائفها الأساسية.
ذكريات الزمن القادم …
الحديث عن تاريخ دمشق المعاصر هو محاولة لاستشراف حاضرها ومستقبلها، في مشهد يعيد نفسه بقوة أشد على مدينة تخسر مرونتها وقدرتها على التعامل مع الواقع المستجد لسوريا ودمشق بعد سقوط النظام.
وبدل أن تبدأ السلطة الجديدة في معالجة الجراح عمقتها وزادت عليها، بينما راحت تعلن عن مشاريع وتصورات مستقبلية تخص بها مدينة دمشق ومحيطها، في تجاهل لكل هذه التحديات والتغاضي عنها، أو كخطوة للهروب إلى الأمام بدل الوقوف على جذر المشكلة والبدء بعلاجها. بشار مبارك
موجات الهجرة لم تنقطع طوال سنوات الثورة السورية، وازدادت حدة بعد سقوط نظام الأسد وقدوم سلطة جديدة، مما شكل فرصة للكثيرين من أنصارها والمحسوبين عليها، سواء من تم استدعاؤهم لملء الفراغ في مراكز القرار أو لسد النقص في مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية والحكومية. من جهة أخرى، فإن السياق المضطرب ودوامة العنف في سوريا يعززان من حضور دمشق كواحة آمنة نسبياً، مما يزيد من قوة استقطابها، خاصة من المناطق المتضررة نتيجة العنف أو التي تشهد توغلاً للاحتلال الإسرائيلي.
تعاني دمشق ارهاصات هذا السياق الجديد والانتقال من منظومة حكم إلى أخرى، وفي مقابل موجات القدوم الجديدة، لا يمكن القول أن دمشق ستمتلك قوة طاردة لكل من احتضنتهم يوماً. فرغم كل ما تم الإبلاغ عنه من حالات إخلاء أو تهديدات، إلا أنّ الميل الأكبر لدى العائلات كان في محاولة البقاء في دمشق ومحيطها.
دمشق التي تقف اليوم على لحظة فارقة في تاريخها، تحاول أن تعيد فيها تعريف نفسها والجغرافيا والتاريخ الذي تنتمي لهما، تنظر إلى مشروع دمشق الكبرى، وتسأل: أي دمشق ؟!. بشار مبارك
فبالنسبة لهم كانت دمشق المستقر على امتداد عقود استثمروا فيها حاضرهم ومستقبلهم، على حساب مناطقهم الأصلية التي فضلاً عن أنها لا تملك أي مقومات للاستقرار على صعيد التعليم والعمل، فهي أيضاً تبقى مناطق توتر في ظل غياب أي فعل تهدئة حقيقي أو توجه من قبل السلطة تجاه المحليات لتخفيف هواجسها الأمنية والتمثيلية والاقتصادية والاجتماعية، وعليه فإن من اعتاد النظر إلى الجغرافيا السورية خارج دمشق على أنها صحراء هو اليوم ورغم كل التحديات التي يعيشها أكثر اقتناعاً بوجهة نظره التي تتعزز يوماً بعد يوم وحدثاً بعد آخر.
دمشق الكبرى … أي دمشق وأي مستقبل
ليست المرة الأولى التي ترى دمشق نفسها أمام سياق مضطرب، لكنها اليوم أمام سياق ملتهب تجد نفسها عاصمة لدولة تمزقت أوصالها، فلا تجد السبيل للملمة الجراح وشد العصب وتثبيت البوصلة في محيط دولي يزداد اضطراباً ويفرض ايقاعه وإملاءاته وتصوراته لحاضر البلاد ومستقبلها، في ظل سلطة ورثت تبعات نزاع دموي عنيف امتد لسنوات بما راكمه من خسارات ونزيف وتحديات ضربت عميقاً في بنية المجتمع السوري.
وبدل أن تبدأ السلطة الجديدة في معالجة الجراح عمقتها وزادت عليها، بينما راحت تعلن عن مشاريع وتصورات مستقبلية تخص بها مدينة دمشق ومحيطها، في تجاهل لكل هذه التحديات والتغاضي عنها، أو كخطوة للهروب إلى الأمام بدل الوقوف على جذر المشكلة والبدء بعلاجها.
لا يمكن الحديث عن إقليم دمشق إلا ضمن رؤية كلية شاملة ترى باقي الأقاليم، فلا يمكن فصل دمشق عن منفذها إلى العالم في الساحل، ولا عن قاطرتها الاقتصادية في حلب ولا عن سلال الغذاء والموارد في الشرق والجنوب والمنطقة الوسطى بشار مبارك
دمشق التي تقف اليوم على لحظة فارقة في تاريخها، تحاول أن تعيد فيها تعريف نفسها والجغرافيا والتاريخ الذي تنتمي لهما، تنظر إلى مشروع دمشق الكبرى، وتسأل: أي دمشق ؟!. ليس الحديث في معرض الانتقاد لمشروع طرح سابقاً وفق منهجيات علمية وحلول عملية كان يفترض لو أتيح له الإرادة والموارد لوضعه موضع التنفيذ أن يخلق استجابات حقيقية للكثير من تحديات دمشق وأزماتها.
بل محاولة لطرح الأسئلة المشروعة ومشاركة الهواجس التي يفترضها مثل هكذا مشروع، فهل هذا الوقت المناسب لطرحه بالاستناد إلى ما استعرضناه من سياق، ومن الجهة التي درست ورسمت وقررت وأي دور للجهات صاحبة التخصص والخبرة، وهل كان هنالك مقاربات لما تم العمل عليه سابقاً، وأين أهل دمشق – أقلها – من مشروع دمشق؟، أما كان يجب أن يتم العمل وفق آليات تشاورية تحقق أكبر مشاركة فاعلة على مستوى الأفكار والرؤى والرساميل المجتمعية الهامة التي ستنقل هذا المشروع مستقبلاً من الورق إلى أرض الواقع.
اجتماع محافظة دمشق لمناقشة المصور العام للمحافظة _ فايسبوك
يتم الحديث عن والتخطيط الإقليمي المرتبط به، من خلال النظر إلى دمشق ومحيطها كمساحة واعدة للاستثمار، لا لمعالجة اختلالاتها البنيوية، وهو افتراض قد يكون صحيحًا من الناحية الاقتصادية لكنه يحمل تبعات جسيمة على الصعيد الخدمي والمؤسساتي والاجتماعي والبيئي والثقافي، حيث ستزيد هذه الاستثمارات من قوة الجذب والاستقطاب التي تمتلكها دمشق أساساً، وفي ظل الأعداد الكبيرة من العائلات القادمة للعمل ومن ثم الاستقرار، يمكن توقع شكل ومنحى هذه التبعات على صعيد اتساع السكن العشوائي الذي سيكون الخيار الأول لتأمين السكن المتناسب مع الدخل، وهو اتساع يتعدى حدود الكم والمكان إلى ما هو أخطر، والمتمثل بما يمكن أن نسميه ” عقلية الاستيطان العشوائي ” التي تنطلق من آليات التكيف وإجراءات الالتفاف على قوانين وأنظمة البناء، لتصبح ثقافة المخالفة أسلوب حياة وطريقة التعاطي مع الكثير من القضايا ضمن منطق تغليب المصلحة الشخصية على المصلحة العامة، والتحايل أو افتراض القدرة على تجاوز الأنظمة والقوانين أو الاستقواء عليها.
إنّ دمشق اليوم على مفترق طرق، إما أن تتحول إلى نموذج مديني حضري متوازن متسقة مع محيطها الوطني ضمن إطار تخطيطي متكامل تنظر بمسؤولية إلى غيرها من أقاليم قبل النظر إلى نفسها، أو أن تستمر في مركزية سلطوية أثبت الواقع أنها مهما بدت فعالة ظاهريًا، إلا أنها ستبقى هشة بشار مبارك
مثل هذه العقلية ستزيد من حجم الهشاشة والتوترات المجتمعية، وفي ظل التشظي الهوياتي الذي تشهده سوريا، يمكن لنا أن نتخيل شكل هذه التوترات وطريقة التعامل معها مجتمعاً وسلطة. وفوق كل هذه الهواجس، ما تزال حاضرة أمامنا تبعات الكثير من مشاريع التطوير العمراني التي قامت على أرض دمشق وما تسببت به من تغيير في هوية المكان وأهله، فضلاً عن تعزيز مركزية آليات اتخاذ القرار على قاعدة استرضاء رأس المال والمحسوبيات وكسب الولاءات، ، بدلًا من تبني رؤية شاملة قائمة على اللامركزية والمساواة والتنمية المتوازنة ومنح الصلاحيات للسلطات المحلية في استثمار مواردها وضمان استدامة تنمية مجتمعاتها.
إن كل ما ذكر تبقى دروساً مستفادة للتعلم منها والاتعاظ بها، والتوقف عن اتباع نفس الأساليب والآليات متوقعين أن تكون النتائج مختلفة.
ما العمل ..؟
في العقد الأول من القرن الحالي بُدأ العمل على ما سمي حينها ” الإطار الوطني للتخطيط الإقليمي” هذا الإطار الذي نظر إلى الجغرافيا السورية ككل، منطلقاً من توصيف تحليلي للاختلالات التنموية التي عانت منها سوريا طيلة عقود، ومؤشرات كمية ونوعية في مختلف القطاعات، وكان الهدف الأساسي لهذا الإطار الوطني هو محاولة معالجة الاختلال المكاني الناتج عن تركّز السكان والاستثمار في محور دمشق – حلب، من خلال اعتماد محاور تنموية بديلة وخلق أقطاب تنموية جديدة، وبناء عليه تم تقسيم سوريا إلى سبع أقاليم تخطيطية تنموية إحداها “دمشق الكبرى”، وهنا تكمن نقطة البدء، فلا يمكن الحديث عن إقليم دمشق إلا ضمن رؤية كلية شاملة ترى باقي الأقاليم، فلا يمكن فصل دمشق عن منفذها إلى العالم في الساحل، ولا عن قاطرتها الاقتصادية في حلب ولا عن سلال الغذاء والموارد في الشرق والجنوب والمنطقة الوسطى، وما عدا ذلك لن يكون تقوية للمركز بمقدار ما هو تهميش للأطراف بكل ما سيستتبع ذلك هنا وهناك.
كانت دمشق واحة الفرص ضمن صحراء سورية بدا أنها تتسع كنتيجة لاهتمام نظام البعث الكبير بدمشق، والسعي لتأمين المتطلبات المستجدة والاحتياجات التي بدأت تتراكم على كل الأصعدة لمدينة بدا واضحاً أنها استهلكت كل مقدراتها وطاقتها الاستيعابية دون أي قدرة على كبح جماح هذا الاستقطاب الذي استتبع توسعاً أكبر واهتماماً أكبر على حساب باقي المناطق بشار مبارك
خلق أقطاب تنموية على مستوى المحافظات والمدن هو الحل كخطوة أولى، فهو سيخفف من حدة استقطاب دمشق لصالح أقطاب النمو الجديدة ويعطيها الفرصة للاستثمار في مواردها ورأس المال البشري لديها الذي سيملك خيار البقاء بالنظر للفرص الواعدة للعمل والتطور والحفاظ على هويته وارثه الثقافي والاجتماعي.
وهذا يستلزم بالضرورة بيئة سياسية واجتماعية هادئة ومستقرة، ومنطق حكم تشاركي يقوم على الاعتراف المتبادل بين المركز والمحليات، بما يعني ذلك من إعطاء هذه المحليات مساحة الحضور والمشاركة والتمثيل اللازمين ضمن إطار من اللامركزية الإدارية الموسعة التي تعيد تعريف الأدوار الوظيفية لكل من المركز والمحليات وما يستتبع ذلك من سلطات وصلاحيات ومسؤوليات، ضمن إطار منظومة تشريعية واقتصادية واجتماعية متكاملة.
إنّ دمشق اليوم على مفترق طرق، إما أن تتحول إلى نموذج مديني حضري متوازن متسقة مع محيطها الوطني ضمن إطار تخطيطي متكامل تنظر بمسؤولية إلى غيرها من أقاليم قبل النظر إلى نفسها، أو أن تستمر في مركزية سلطوية أثبت الواقع أنها مهما بدت فعالة ظاهريًا، إلا أنها ستبقى هشة وتراكم أزمات كامنة قابلة للانفجار عند أول اختلال سياسي أو اقتصادي.
الوسوم