الأحد, 17 أغسطس 2025 09:00 PM

إسرائيل في غزة: استراتيجية لتغيير الواقع الديموغرافي والجغرافي

إسرائيل في غزة: استراتيجية لتغيير الواقع الديموغرافي والجغرافي

يقول جميل مازن شقورة إن إسرائيل دخلت في حرب طويلة، يسعى رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو من خلالها للبقاء في السلطة والهروب من قضايا الفساد. لكن وراء هذا المشهد، تكمن استراتيجية أعمق تهدف إلى إعادة تشكيل واقع قطاع غزة بما يخدم المصالح الإسرائيلية طويلة المدى.

بعد أكثر من عام على بدء العدوان، تتضح معالم هذه الاستراتيجية التي تتجاوز مجرد «القضاء على حماس» لتشمل أهدافاً سياسية واقتصادية وجيواستراتيجية أوسع نطاقاً.

إن فهم ما تريده إسرائيل حقاً من قطاع غزة يتطلب تحليلاً عميقاً لمواقفها من قضايا أساسية مثل رفضها لعودة السلطة الفلسطينية لقطاع غزة، وسعيها لإقصاء «الأونروا»، ورفضها لمخرجات مؤتمر حل الدولتين، وطموحات اليمين المتطرف.

هذه المواقف مجتمعة ترسم صورة واضحة لمشروع إسرائيلي يهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية نهائياً، بدءاً من قطاع غزة.

يشكل الرفض القاطع لإسرائيل لعودة السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة أحد أهم ركائز استراتيجيتها طويلة المدى تجاه القطاع. فقد أكد المتحدث باسم نتنياهو، أومير دوستري، أن إسرائيل لن تسمح بعودة السلطة الفلسطينية إلى حكم قطاع غزة. وجدد نتنياهو نفسه هذا الموقف مراراً، مشدداً على رفضه السماح للسلطة الفلسطينية أو «حماس» بالسيطرة على القطاع.

هذا الموقف ليس مجرد رد فعل على الأحداث الجارية، بل يعكس رؤية استراتيجية عميقة تهدف إلى منع أي شكل من أشكال الحكم الفلسطيني المستقل في غزة. فإسرائيل تدرك جيداً أن عودة السلطة الفلسطينية إلى غزة ستعني إعادة توحيد الأراضي الفلسطينية تحت سلطة واحدة، مما يقوي الموقف التفاوضي الفلسطيني ويعيد إحياء مشروع الدولة الفلسطينية.

إن هذا الرفض يسعى لتكريس الانقسام الجغرافي والسياسي بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وهو ما يندرج ضمن استراتيجية أوسع لتفتيت الكيان الفلسطيني وإبقائه منقسماً، وذلك ما يضعف القدرة الفلسطينية على التفاوض من موقع قوة، ويمنع تشكيل كتلة فلسطينية موحّدة قادرة على مقاومة المشاريع الإسرائيلية، مما يتيح لإسرائيل التعامل مع كل منطقة بشكل منفصل وفقاً لمصالحها.

كما يرتبط رفض عودة السلطة الفلسطينية بالرغبة الإسرائيلية في إنشاء نموذج حكم بديل في غزة يكون أكثر قابلية للسيطرة والتحكم. فبدلاً من التعامل مع سلطة فلسطينية لها شرعية دولية ومطالب سياسية واضحة، تفضل إسرائيل التعامل مع كيانات محلية أصغر وأضعف يمكن التحكم فيها بسهولة أكبر.

تشكّل الحملة الإسرائيلية المنهجية ضد «الأونروا» جزءاً لا يتجزأ من استراتيجيتها الشاملة لتصفية القضية الفلسطينية. ففي 28 تشرين الأوّل 2024، أقر الكنيست الإسرائيلي قانوناً يمنع عمل الوكالة في إسرائيل، ويجعل من الصعب عليها العمل في القدس الشرقية المحتلة. كما قدمت إسرائيل اقتراحاً للأمم المتحدة بتفكيك الوكالة بالكامل.

إن استهداف «الأونروا» ليس مجرد خطوة تكتيكية، بل يمثل محاولة استراتيجية لضرب أحد أهم الرموز المؤسسية للقضية الفلسطينية. فـ«الأونروا» التي تأسست عام 1949، تجسد الاعتراف الدولي بحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة، وتحافظ على هويتهم وحقوقهم عبر الأجيال. لذا؟ فإن تصفية هذه الوكالة يعني عملياً محو الذاكرة المؤسسية للنكبة الفلسطينية وإنكار حق العودة.

خلال العدوان الحالي على غزة، استهدفت إسرائيل منشآت «الأونروا» بشكل منهجي، حيث تم تسجيل 170 غارة جوية إسرائيلية على منشآت الوكالة، بما في ذلك المدارس ومراكز التدريب والملاجئ التي لجأ إليها أكثر من مليون فلسطيني نازح. هذا الاستهداف المتعمد يكشف عن النية الإسرائيلية لتدمير البنية التحتية لـ«الأونروا» وجعل عملها مستحيلاً.

ويخدم الهجوم على «الأونروا» أيضاً الهدف الإسرائيلي الأوسع المتمثل في تصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين نهائياً. فبدلاً من التعامل مع الفلسطينيين كلاجئين لهم حق العودة، تسعى إسرائيل لإعادة تصنيفهم كمهاجرين عاديين يمكن توطينهم في البلدان المضيفة أو ترحيلهم إلى أماكن أخرى. هذا التحول في التصنيف القانوني والسياسي يهدف إلى إنهاء المطالبة بحق العودة نهائياً.

يأتي الرفض الإسرائيلي القاطع لمخرجات المؤتمر الدولي رفيع المستوى بشأن التسوية السلمية للقضية الفلسطينية وتنفيذ حل الدولتين، الذي عُقد في مقر الأمم المتحدة في نيويورك، ليؤكد التوجه الإسرائيلي الثابت نحو رفض أي حل سياسي حقيقي للصراع.

هذا الرفض ليس مجرد موقف تكتيكي مؤقت، بل يعكس استراتيجية إسرائيلية طويلة المدى تهدف إلى دفن حل الدولتين نهائياً.

إن رفض إسرائيل لمخرجات المؤتمر يكشف عن حقيقة مهمة: أن إسرائيل لا تريد حلاً سياسياً للصراع، بل تسعى لفرض واقع جديد على الأرض يضمن سيطرتها الكاملة على فلسطين التاريخية. فحل الدولتين، رغم ما يحمله من تنازلات فلسطينية، لا يزال يتضمن اعترافاً بالحقوق الفلسطينية وإقامة دولة فلسطينية مستقلة، وهو ما ترفضه إسرائيل جملة وتفصيلاً.

يأتي هذا الرفض في سياق استراتيجية إسرائيلية أوسع تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية من خلال فرض حلول أحادية الجانب. فبدلاً من التفاوض على حل عادل ومتوازن، تسعى إسرائيل لفرض شروطها الخاصة التي تضمن لها السيطرة الكاملة على الأرض والموارد، مع إنكار الحقوق الفلسطينية الأساسية.

إن الموقف الإسرائيلي من مؤتمر حل الدولتين يتماشى مع رؤية اليمين الإسرائيلي المتطرف الذي يهيمن على الحكومة الحالية، حيث يرفض اليمين الإسرائيلي المتطرف حل الدولتين باعتباره تهديداً وجودياً وهو ما يعكس التزاماً أيديولوجياً بمشروع «إسرائيل الكبرى».

وهذا الرفض أيضاً يتيح لإسرائيل كسب الوقت لفرض وقائع جديدة عبر توسيع الاستيطان وتعزيز السيطرة على الأراضي، بهدف جعل حل الدولتين غير قابل للتطبيق عملياً.

تتجسد الأهداف الحقيقية لإسرائيل من قطاع غزة بوضوح في تصريحات وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش، اللذين يمثلان الوجه الحقيقي للسياسة الإسرائيلية تجاه القطاع.

فقد أعلن بن غفير صراحة أنه يريد تهجير مليون فلسطيني من غزة، أي ما يوازي نصف عدد سكان القطاع. هذا التصريح ليس مجرد تطرف فردي، بل يعكس توجهاً حكومياً واضحاً نحو التطهير العرقي.

من جهته، كشف سموتريتش عن «ضوء أخضر» أميركي يتيح لتل أبيب تحويل قطاع غزة إلى «مدينة سياحية» بعد تهجير الفلسطينيين منه واحتلاله كاملاً.

هذا التصريح يكشف عن البعد الاقتصادي للمشروع الإسرائيلي الذي يهدف إلى استغلال الموقع الاستراتيجي للقطاع على البحر المتوسط.

إن طموحات هذين الوزيرين تتجاوز مجرد السيطرة العسكرية لتشمل مشروعاً استعمارياً شاملاً يهدف إلى تغيير الطابع الديموغرافي والجغرافي لقطاع غزة. فالحديث عن تحويل غزة إلى «مدينة سياحية» يعني عملياً محو الوجود الفلسطيني وإحلال مشاريع إسرائيلية مكانه.

هذه الطموحات تستند إلى حسابات اقتصادية واقعية. فقطاع غزة يتمتع بثروات طبيعية هائلة، خاصة حقول الغاز الطبيعي في المياه الإقليمية، والتي تقدر قيمتها بمليارات الدولارات. كما يتمتع القطاع بموقع استراتيجي مهم على البحر المتوسط.

لكن تحقيق هذه الطموحات يواجه تحديات كبيرة، أولها المقاومة الفلسطينية المستمرة، فرغم كل الدمار الذي لحق بغزة، لا تزال المقاومة تحاول التصدي للمشاريع الإسرائيلية، كما أن التهجير القسري لمليوني فلسطيني من غزة يتطلب موافقة دولية وإقليمية قد تكون صعبة المنال.

ثانياً، تواجه هذه الطموحات معارضة من داخل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية نفسها. فقد رفض كل قادة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية خطة احتلال قطاع غزة، محذرين من التكلفة الباهظة لهذا المشروع.

ثالثاً، يتطلب تنفيذ هذا المشروع موارد مالية وبشرية ضخمة قد تفوق القدرات الإسرائيلية الحالية.

إن تحليل المواقف الإسرائيلية من القضايا الأساسية المتعلقة بقطاع غزة يكشف عن مشروع شامل يهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية نهائياً، بدءاً من القطاع. هذا المشروع لا يقتصر على الأهداف العسكرية المعلنة، بل يتجاوزها إلى أهداف سياسية واقتصادية وديموغرافية أعمق.

فرفض عودة السلطة الفلسطينية، وإقصاء «الأونروا»، ورفض حل الدولتين، وطموحات التهجير والاستيطان، كلها عناصر مترابطة في استراتيجية واحدة تهدف إلى إنهاء الوجود الفلسطيني في غزة وتحويل القطاع إلى منطقة خاضعة للسيطرة الإسرائيلية الكاملة.

هذا المشروع يستغل الحرب الحالية كغطاء لتنفيذ أجندة طويلة المدى كانت موجودة قبل «7 أكتوبر» بوقت طويل. فالحرب وفرت الذريعة والفرصة لتسريع تنفيذ مخططات كانت تحتاج في الظروف العادية إلى سنوات. كما أن البعد الاقتصادي للمشروع الإسرائيلي في غزة لا يقل أهمية عن البعد السياسي. فالسيطرة على الثروات الطبيعية في القطاع، خاصة حقول الغاز، تشكل دافعاً قوياً لاستمرار المشروع الاستعماري.

إن مواجهة هذا المشروع تتطلب استراتيجية فلسطينية وعربية ودولية شاملة تتجاوز مجرد الاستنكار إلى اتخاذ خطوات عملية فعالة. يجب أن تشمل هذه الاستراتيجية تعزيز الصمود الفلسطيني في غزة، وفضح الأهداف الحقيقية للمشروع الإسرائيلي دولياً، والضغط لتطبيق القانون الدولي ومحاسبة إسرائيل على جرائمها.

بالتالي، ما تريده إسرائيل من قطاع غزة واضح: تصفية شاملة للوجود الفلسطيني وتحويل القطاع إلى منطقة خاضعة للسيطرة الإسرائيلية الكاملة. هذا المشروع يتجاوز غزة ليشكل نموذجاً لما تخطط إسرائيل لتطبيقه في باقي فلسطين.

لذلك، فإن الدفاع عن غزة اليوم هو دفاع عن كل فلسطين، والتصدي للمشروع الإسرائيلي في القطاع هو تصدٍ لمشروع التصفية الشامل للقضية الفلسطينية.

أخبار سوريا الوطن

مشاركة المقال: