أكد رئيس الهيئة الوطنية للمفقودين في سوريا، الدكتور محمد رضا جلخي، أن الهيئة وثقت حتى الآن 63 مقبرة جماعية، مشيراً إلى أن عدد المفقودين يقدر ما بين 120 و300 ألف شخص، وذلك ضمن الفترة الزمنية التي تغطيها الهيئة من عام 1970 وحتى اليوم.
مبادئ عمل الهيئة وهيكليتها
وفي لقاء خاص مع سانا، أوضح الدكتور جلخي أن عمل الهيئة يمثل حجر الزاوية في مسار العدالة الانتقالية، وبالتالي في تحقيق السلم الأهلي في سوريا، الأمر الذي يتطلب تعاوناً من المؤسسات الرسمية، ومؤسسات المجتمع المدني، والعائلات وروابطها، بالإضافة إلى المؤسسات والآليات الدولية.
وأضاف الدكتور جلخي أنه منذ تأسيس الهيئة بموجب المرسوم الرئاسي رقم (19) لعام 2025 الصادر في الـ 17 من أيار الماضي، وضعت الهيئة هيكلية مؤقتة تتضمن مجلساً استشارياً ومجلساً تنفيذياً وفق خطة عمل من 6 مراحل، وتعمل وفق مبادئ أساسية تشمل الشمولية والشفافية. وتشمل الخطة إطلاق منصة رقمية وطنية للمفقودين، ومشروعاً لإطلاق بطاقة دعم لذوي المفقودين، إلى جانب إجراء مشاورات موسعة مع ثلاث شرائح أساسية هي:
- العائلات وروابط عائلات المعتقلين أو المختفين قسراً.
- مؤسسات المجتمع المدني.
- المؤسسات والآليات الدولية التي عملنا معها في هذا الملف.
كما اطلعت الهيئة على تجارب العديد من الدول التي واجهت قضايا مماثلة، بحسب جلخي، بالإضافة إلى مراجعة دراسات واستراتيجيات عمل قدمتها جهات متعددة، شملت آليات العمل، والهياكل التنظيمية، والأنظمة الداخلية، مما أدى إلى التوصل إلى ستة مبادئ أساسية تحكم عمل الهيئة، وهي:
- مبدأ التشاركية: العمل مع العائلات كفريق واحد، ويتجسد ذلك في الفريق الاستشاري الذي يضم نصف أعضائه من ممثلي العائلات، ويشمل هذا المبدأ التعاون مع مؤسسات المجتمع المدني والآليات الدولية.
- مبدأ الشفافية: الالتزام بالشفافية في الإجراءات، وفي التقارير الدورية، وإطلاع الأهالي على التحديثات، والبروتوكولات، والتدابير المرتبطة بالملف.
- مبدأ الشمولية: يشمل ولاية الهيئة في البحث عن مصير كل مفقود سوري، بغض النظر عن الزمان أو المكان أو الانتماء، إضافة إلى المفقودين من جنسيات أخرى داخل سوريا وبغض النظر عن انتماءاتهم السياسية أو مناطقهم أو الجهة التي كانت مسيطرة على مكان اختفائهم، والهدف هو مقاربة شاملة للملف بحيث لا يُستثنى أي ضحية، ولتجنب التسييس أو التمييز في التعامل مع العائلات.
- المبدأ العلمي المهني الموضوعي.
- مبدأ الواقعية: الذي يتبنى خطاباً واقعياً مع الأهالي لإدارة التوقعات، بحيث لا نرفع سقفها كثيراً ولا نغلق باب الأمل.
- مبدأ التكامل.
وأوضح الدكتور جلخي أن الهيئة وضعت هيكلية إدارية مؤقتة تتضمن مجلساً استشارياً يتولى رسم السياسات، ويضم ثلاثة مكونات رئيسية:
- خبراء.
- ممثلين عن مؤسسات المجتمع المدني.
- ممثلين عن الوزارات المختصة مثل العدل، والدفاع، والصحة، والشؤون الاجتماعية والعمل.
- ممثلين عن العائلات، إضافة لمجلس تنفيذي يتولى تنفيذ السياسات الصادرة عن المجلس الاستشاري، ويتفرع عنه خمسة قطاعات أساسية:
- التحقق والتوثيق.
- إدارة وتحليل البيانات.
- بناء الشراكات.
- دعم العائلات (دعم نفسي، قانوني، اجتماعي، ومعنوي).
- الكفاءة المؤسسية والمالية.
وأشار جلخي إلى وضع نظام داخلي أولي لضبط الهيكلية من الناحية التنظيمية والفنية، إضافة إلى استراتيجيات أولية تحكم عمل الهيئة، منها:
- بروتوكول خاص باختيار الكوادر.
- بروتوكول لاستلام وتسليم البيانات.
- بروتوكول لحماية الشهود والمبلغين.
- استراتيجيات لبناء الشراكات مع المؤسسات المحلية والدولية.
- استراتيجية خاصة بإدارة التوقعات.
- استراتيجية خاصة بالخطاب الإعلامي.
وأوضح الدكتور جلخي أن خطة عمل الهيئة تتكون من ست مراحل ضمن خطة زمنية من 3 إلى 6 أشهر كبداية للانطلاق العملي، وهي:
- إطلاق مشاورات وطنية حول ملف المفقودين في سوريا.
- إعداد الإطار القانوني والأخلاقي لعمل الهيئة.
- اختيار الكوادر.
- اعتماد الهيكلية النهائية والنظام الداخلي النهائي.
- تحديد الاستراتيجيات النهائية.
- إعداد التقرير الأول عن عمل الهيئة وعرضه على الجمهور.
وبين الدكتور جلخي أن المرحلة الأولى جرت في الشهر الماضي على مدار ثلاثة أيام؛ يومان خُصّصا للعائلات كمساحة آمنة لطرح احتياجاتهم ومقترحاتهم، ويوم لمؤسسات المجتمع المدني للوصول إلى ورقة عمل تحدد كيفية مساهمتهم في الهيئة. وأشار الدكتور جلخي إلى أنه نتج عن هذه المشاورات مجموعة نقاط ومبادئ يمكن للهيئة تبنيها في رؤيتها واستراتيجيتها وهيكليتها، مثل تعزيز التشاركية والشفافية. ولفت إلى أن مشاورات دولية عُقدت في جنيف بين الهيئة وجهات عدة، خرجت بمبادئ أساسية تحكم العلاقة معها، مع التأكيد على أن مسار المفقودين يجب أن يُحدد ويُقاد من قبل السوريين أنفسهم، مع استعداد الهيئة للتعاون وفق ما يحدده السوريون.
وأوضح الدكتور جلخي أن الهيئة تعمل ضمن المرحلة الثانية والثالثة، حيث يجري العمل على إطلاق ورشات عمل بالتعاون مع نقابة المحامين، والمؤسسات الحقوقية السورية، وخبراء دوليين، لوضع الإطار القانوني لعمل الهيئة. وأشار إلى أن الهيئة تستعد لتنظيم مؤتمر وطني موسع حول احتياجات وحقوق عائلات المفقودين، تُصنّف فيه هذه الاحتياجات إلى 7 أو 8 محاور تبدأ بحقهم في معرفة الحقيقة وتنتهي بحقهم في حفظ الذاكرة، ويجمع كل المؤسسات السورية والدولية المعنية، بهدف بحث سبل التعاون في تلبية هذه الاحتياجات، وبناء شراكات متخصصة. ولفت إلى أنه يتم حالياً توقيع بروتوكولات تعاون مع المؤسسات والآليات الدولية بهدف دعم القدرات، وخاصة في مجالات التوثيق القانوني، والطب الشرعي، إضافة إلى دعم البنية التحتية. وأشار إلى أن كل هذه الاتفاقيات تحت سقف سيادة الدولة السورية، ووفق الأعراف الدولية، وفي إطار مسار تحدده وتقوده الهيئة الوطنية للمفقودين.
المنصة الرقمية وبطاقة دعم
وكشف الدكتور جلخي أن العمل جارٍ لإطلاق منصة رقمية وطنية للمفقودين في سوريا، هدفها إنشاء بنك معلومات وطني للمفقودين، يشمل كل السوريين، يدعمها فريق تقني من المبرمجين، إضافة إلى فرق ميدانية قادرة على الانتقال إلى المدن والمناطق لتغطية الحالات التي لا يمكن الوصول إليها رقمياً. وأوضح أنه سيتم بناء بنك معلومات المفقودين في سوريا بالدرجة الأولى عبر هذه المنصة الرقمية، وبالدرجة الثانية عبر الفرق الميدانية التي ستجري مسوحاً لعائلات المفقودين في مختلف المحافظات. وبين أنه يجري العمل على مشروع إطلاق بطاقة لدعم ذوي المفقودين، وهي بطاقة تُمنح لعائلاتهم لتقديم دعم قانوني، تعليمي، تدريبي، نفسي، واجتماعي، الهدف منها التعبير عن تضامن المجتمع السوري مع هذه العائلات، والمساهمة في تخفيف حجم المعاناة الكبيرة الناتجة عن فقدان المعيل أو أحد أفراد الأسرة.
المهام الأساسية للهيئة: التوثيق والدعم
ووفق الدكتور جلخي تنحصر المهام الأساسية للهيئة في محورين، هما الدعم والتوثيق الذي يتم عبر وسائل متعددة، من بينها جمع بيانات DNA والبصمات الوراثية. وأكد أنه تم الحصول على موافقات للاستفادة من المخابر التابعة لوزارة الصحة وهيئة الطاقة الذرية، وتم البدء باستخدام هذه المخابر في المرحلة الأولى، لكن العمل جارٍ على تأمين مخابر إضافية بسبب حجم العمل المتوقع. وبين أن الأولوية حالياً هي بناء قدرات وطنية من أطباء شرعيين وخبراء حقوقيين للتعامل بشكل احترافي مع العينات، وبما يتوافق مع المعايير الدولية للتوثيق. وكشف أنه تم الحصول على منح لتدريب الكوادر السورية في دول أوروبية متقدمة في مجال الطب الشرعي والتوثيق، إضافة إلى السعي لجلب مدربين عالميين لتدريب الكوادر داخل سوريا.
ولفت إلى أنه سيتم الاعتماد على بيانات التوثيق التي جمعتها المؤسسات السورية خلال السنوات السابقة والتي قد تصل في بعض الحالات إلى أكثر من 100 ألف حالة موثقة، وهي ملك للشعب السوري، وقد أبدت المؤسسات المعنية استعدادها لتسليمها للهيئة. وأوضح الدكتور جلخي أنه تم التوصل إلى تفاهمات مع وزارتي الداخلية والعدل حول آليات التعامل مع المقابر الجماعية، وتم إعداد بروتوكولات خاصة بحمايتها والتعامل معها منذ لحظة الإبلاغ وحتى مرحلة التسليم، بمشاركة فريق مختص يضم طبيباً شرعياً، وباحثاً ميدانياً، وممثلين عن النيابة العامة، وإعلامياً مختصاً بالتوثيق، ويلتزم الفريق بالتدخل خلال مدة أقصاها ست ساعات من وقت الإبلاغ. وكشف أن الهيئة لديها حالياً خريطة تتضمن أكثر من 63 مقبرة جماعية موثقة في سوريا، مع ورود معلومات شبه يومية عن مواقع أخرى لم يتم التحقق منها بعد.
أعداد المفقودين والتحديات
وبين الدكتور جلخي أن التقديرات الحالية لأعداد المفقودين تتراوح بين 120 ألفاً و300 ألف، لكن العدد الفعلي قد يكون أكبر بكثير، وأن هناك عوامل متعددة تعقّد عملية الحصر، منها عدم تبليغ بعض العائلات لأسباب أمنية أو سياسية، ووجود مفقودين لدى جهات مرتبطة بالنظام البائد بشكل غير رسمي، ولا تملك سجلات أو وثائق عنهم.
حقوق العائلات
وشدد الدكتور جلخي على أن من أهم الحقوق التي تسعى الهيئة لضمانها للعائلات هو الحق في معرفة الحقيقة، والحق في الاطلاع على المستجدات المتعلقة بملف مفقوديهم، إضافة إلى مشروع بطاقة الدعم، أما جبر الضرر المرتبط بالمساءلة والمحاسبة فهو من اختصاص هيئة العدالة الانتقالية، بينما ينحصر دور الهيئة في الدعم المباشر.
التحديات الخاصة بالحالة السورية
وأكد الدكتور جلخي أن الهيئة تعتبر نفسها حجر أساس في مسار العدالة الانتقالية والسلم الأهلي، لكن هذا المسار بطبيعته طويل وشاق، حتى في الدول التي لم تشهد تعقيدات مثل الحالة السورية، حيث تتجلى خصوصية الوضع السوري في:
- الإرث الطويل من الظلم والاستبداد في عهد نظام الأسد الأب والابن.
- المنظومة القضائية المتهالكة التي تحتاج إلى إعادة هيكلة وتأهيل لتكون قادرة على إجراء محاكمات عادلة وشفافة.
- ضياع أو إتلاف كثير من الأدلة خلال السنوات الماضية.
- الحاجة إلى تدريب وبناء قدرات وطنية مؤهلة للتعامل مع الملف، وهو ما يتطلب سنوات من العمل.
الولاية الزمنية للهيئة والتجارب الدولية
وبين الدكتور جلخي أن الولاية الزمنية لعمل الهيئة حُددت اعتباراً من عام 1970، وهو العام الذي استولى فيه حافظ الأسد على السلطة في سوريا، وصولاً إلى اليوم، وهذا التحديد جاء بعد مشاورات وطنية، نظراً لوجود إرث ثقيل من المفقودين والمخفيين قسراً منذ سبعينيات القرن الماضي، مروراً بأحداث الثمانينات وما بعدها. وبين أن مسار عمل الهيئة لن يكون قصيراً، وأن الهيئة لا يمكنها تحديد مسار زمني لأن الموضوع يتعلق بكثير من التعقيدات المتعلقة بالحالة السورية سواءً بالداخل أو بالخارج. وبين أن هناك دولاً لم تحدد مدة زمنية مثل البوسنة والهرسك، فيما حددت بعض الدول مدة عمل وصلت لـ 30 عاماً.
واستفادت الهيئة، كما أكد جلخي، من خبرات وتجارب دول مرت بظروف مشابهة أكدت أهمية الاستقلالية الإدارية والمالية للهيئة، وضمان عدم تبعيتها لأي جهة سياسية أو أمنية، مع الالتزام الكامل بالمعايير الدولية في التوثيق وحماية الشهود والمعلومات. وختم الدكتور جلخي حديثه لـ سانا بالتأكيد أنه بالرغم من أن مسار ملف المفقودين في سوريا من أعقد الملفات وأكثرها إيلاماً، لكن الإيمان بأن الحق في معرفة الحقيقة والعدالة هما ركيزتان أساسيتان لأي سلام مستدام في سوريا، وأكد أن العمل اليوم هو البداية، مع أمل كبير بأن يشكل خطوة حقيقية نحو كشف مصير جميع المفقودين، وتحقيق العدالة وجبر الضرر لعائلاتهم، وحفظ الذاكرة الوطنية للأجيال القادمة.