الإثنين, 25 أغسطس 2025 12:11 AM

الجمهور و الصحافة: كيف تتحول "السلطة الخامسة" إلى قوة مستبدة؟

الجمهور و الصحافة: كيف تتحول "السلطة الخامسة" إلى قوة مستبدة؟

في عام 2020، استقالت باري فايس من صحيفة "نيويورك تايمز"، وهي صحفية معروفة بانتقادها للتيار اليساري الراديكالي. واجهت فايس حملات تشويه وتهديد متكررة من الجمهور، وكتبت رسالة استقالة تتهم فيها الصحيفة بالرضوخ لـ"عقلية تويتر" (إكس حاليًا) بدلًا من حماية حرية الرأي. وعلى غرار فايس، استقال جيمس بينيت، مسؤول قسم الرأي في الصحيفة ذاتها وفي العام نفسه، لأسباب مماثلة.

يؤكد هذان المثالان على أهمية الجمهور وتأثيره الخطير على الصحافة في الوقت نفسه. فالصحافة تستمد قوتها ودورها من تمثيلها للجمهور بالدرجة الأولى، وبدونه تفقد مهمتها وضرورتها، وتصبح مجرد استثمار خاسر. لطالما كانت العلاقة بين الصحافة والجمهور متأرجحة بين التقدير والضغط، وبين الحرية والاستجابة، وبين الاستقلالية والابتزاز غير المباشر منذ نشأة الصحافة الحديثة.

صحيح أن الصحافة توصف بأنها "سلطة رابعة"، لكن سلطة أخرى تعلوها، وهي الجمهور الذي يتلقى رسائلها ويناقشها ويحاسبها. يمكننا أن نسمي الجمهور "السلطة الخامسة". السؤال هنا هو: متى وكيف ولماذا تستبد هذه السلطة؟ وما الذي يمكن أن تفعله الصحافة لتجنب الصدام مع الجمهور، صاحب المصلحة الأساسية في وجودها؟

يتحول الجمهور إلى سلطة استبدادية تضغط على الصحافة وتفرض عليها خطابًا يتوافق مع ميوله الجماعية، وقد ينقلب إلى قوة قمعية ترهب الصحافة وتلزمها بتبني رؤيته، حتى على حساب الحقيقة. وقد يتجاوز الجمهور حدود النقد البناء ليتحول إلى ضغط قمعي للصحافة في حالات متعددة، منها:

  • عندما يتعارض محتوى الصحافة مع الهوية أو القناعات الجماعية، أو ينشر ما يخالف معتقدًا دينيًا، أو قيمة اجتماعية ثقافية تقليدية راسخة، أو انتماء سياسيًا-قبليًا، إذ يتحول الجمهور إلى قوة معاكسة تضغط بعنف لإسكات الصوت المخالف، حتى وإن كان توجهًا يساير المصلحة العامة خارج إطار الانفعال أو الانزياحات العاطفية، أو يقدم تفسيرًا علميًا غير منحاز.
  • عند الأزمات والحروب والتوتر الجمعي، يبحث الناس عن خطاب يلائم رواياتهم ويدعم موقفهم العاطفي، وأي تعامل صحفي قائم على رواية مختلفة تطرح تساؤلات نقدية، يواجه برفض واتهامات بالخيانة والانحياز.
  • عندما يتحول محتوى وسائل التواصل الاجتماعي إلى "محاكم رقمية"، يمارس الجمهور الاستبداد من خلالها ويقبل بحملات التشويه والتضليل، ويجبر مؤسسات الإعلام والصحافة على الصمت أو التراجع أو الاعتذار رغم أحقية وصوابية الموقف المهني.
  • عندما يتعلق الأمر بالقضايا الأخلاقية أو القيمية، مثل الحرية الشخصية، أو حقوق الأقليات، أو المسلّمات الدينية، يعارض الجمهور المستبد فتح النقاش، ويفرض على الصحافة الصمت أو الانحياز لرأي ذوي المصلحة أو المنحازين لتلك القضايا والمقتنعين بها وبمسلّماتها.

ما سبق يفسر تمامًا مقولة "الجمهور عاوز كده"، ويفسر وجود إعلام رابح دومًا، وغير أخلاقي في أغلب الأحيان، يستفيد ويستثمر في انفعالات الجمهور وغرائزه وقناعاته المسبقة.

ماذا على الصحافة أن تفعل؟ هل تستسلم للجمهور وتسايره في تجرّع السمّ، أم أنها مطالبة بالمقاومة التي قد تتسبب بإغلاقها أو انصراف الجمهور عنها؟ وهل من سبيل لمعالجة هذه الأزمة؟

ليس أمام الصحافة إلا المقاومة، رغم مخاطر فقدان الجمهور، أو البحث عن أساليب مختلفة للوصول إلى قناعاته أو التأثير فيه. يمكن اقتراح أساليب لمواجهة استبداد "السلطة الخامسة"، بينها:

  • التمسك بالمعايير المهنية، لأن الصحفي لا يكتب فقط لإرضاء الجمهور بل لإظهار الحقيقة. وعندما يلتزم بالتحقق من المصادر والدقة والموضوعية، فهو يحمي الصحافة من الانزلاق نحو الشعبوية، ويكسب ثقة الجمهور الذي سيقبل لاحقًا ما يعتبره مخالفًا لاعتقاداته.
  • التربية الإعلامية للجمهور من قبل الصحافة، عبر شرح منهجيات كتابة الأخبار والتحقيقات أو ضرورة عرض الآراء المتعددة، وهو ما يساعد على تبديد النظرة العدائية من قبل الجمهور، وإقناعه بأن الصحافة ليست خصمًا بل مكان للنقاش العام، ونقل المعلومات ووجهات النظر لتعزيز المعرفة.
  • الشفافية والوضوح، ومواجهة الجمهور عبر شرح أسباب نشر مادة صحفية أو معلومات مثيرة للجدل، وهو ما يمتص غضب الجمهور ويبرر منطقيًا أداءه، ويمنع اتهامه بالانحياز.
  • استخدام أساليب مختلفة للنشر أو البث مثل أخبار وتحقيقات وتقارير ومقالات رأي، وتعزيز الصحافة التفسيرية بما يمكّن الجمهور من فهم أبعاد القضية من أكثر من زاوية، ويخفف من ردود الفعل الانفعالية.
  • العمل بناء على تحالفات مهنية وتضامن المؤسسات الإعلامية عند استهداف صحفي من الجمهور بشكل غير مبرر.
  • التجاوب مع النقد البنّاء و"المساءلة المشروعة" دون التنازل عن المعايير المهنية، لأن الصحافة تكسب جمهورًا أوسع حين تُظهر استعدادها للتصحيح.

في بلد يمر بمرحلة ما بعد الحرب، ويعيش أزمات متنقلة، وهي ظواهر طبيعية في مرحلة ما قبل التعافي، توضع الصحافة على محكّ سلطة رأي الجمهور وانفعالاته وأهوائه، و"آفة الرأي الهوى".. وللحديث بقية.

مشاركة المقال: