الأحد, 24 أغسطس 2025 09:59 PM

بين خياري التعايش والانفصال: قراءة في العلاقات الوطنية من منظور "إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان"

بين خياري التعايش والانفصال: قراءة في العلاقات الوطنية من منظور "إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان"

يرى غزوان قرنفل أن من أسمى القواعد التي توصلت إليها التجربة الإنسانية، والتي تجسدت في النصوص الدينية، هي قاعدة "إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان". ورغم أن هذه القاعدة وردت في الأصل في سياق العلاقة الزوجية، إلا أن حكمتها أوسع من ذلك بكثير، ويمكن أن تكون مرشدًا لترسيخ العلاقات الإنسانية السوية والمنصفة، سواء بين الأفراد أو الجماعات والشعوب.

تختزن هذه القاعدة فكرة بسيطة وعميقة، وهي أنه عندما يتعذر استمرار الشراكة بالعدل والاحترام المتبادل، فلا ينبغي فرضها أو استمرارها بالقوة والإكراه، بل يمكن اللجوء إلى الانفصال بطريقة حضارية وسلمية تحفظ الحقوق والكرامات. وعند النظر إلى واقع الأوطان المتعددة المكونات من قوميات وأديان ومذاهب، نجد أن هذه القاعدة تصلح كدستور للعلاقة الوطنية، فالوطن ليس ملكًا لفئة دون أخرى، بل هو عقد اجتماعي يتأسس على رابطة المواطنة.

تعني رابطة المواطنة أن كل فرد وكل جماعة هم شركاء متساوون في الحقوق والواجبات، ولا فضل لأحدهم على الآخر إلا بما يقدمه للوطن من إسهام. ولكن حين تتحول المواطنة إلى مجرد شعار، بينما يحتكر طرف السلطة والثروة والقرار، تصاب الرابطة الوطنية بالانكسار، وتغدو شبيهة بزواج قسري. وعندما تتراكم المظالم، لا يبقى أمام المكونات الوطنية إلا خياران: إما إعادة بناء عقد المواطنة على أساس العدالة والمساواة والعيش المشترك، أو البحث عن انفصال حضاري يحفظ كرامة الجميع، إعمالًا لمبدأ "إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان".

هذا ما فعلته تشيكوسلوفاكيا في بدايات التسعينيات، عندما استحال الاتفاق بين التشيك والسلوفاك على شكل الدولة واقتصادها ومستقبلها السياسي، فلم ينزلق أي منهما نحو صراع دموي، بل انفصلا باتفاق "مخملي". بخلاف ذلك، أدى الطلاق السوداني إلى حروب وصراعات دموية دامت عقودًا بين الشمال والجنوب، وأفضت إلى ملايين القتلى واللاجئين، ثم انتهت بانفصال الجنوب عن الشمال، بينما كانت المطالب قبل ذلك مجرد مشاركة الجنوبيين في السلطة والثروة والتنمية.

تُظهر المقارنة بين التجربتين أن خيار الانفصال يكون مطروحًا فقط حين يستحيل العيش المشترك، لكن الفرق بين "طلاق حضاري" و"طلاق دموي" يكمن في كيفية إدارة هذا الخيار، وفي مدى احترام حقوق كل طرف وكرامته. وفي السياق السوري، يبدو هذا النقاش أكثر حضورًا من أي وقت مضى، فقد أثبتت السنوات الماضية أن إدارة البلاد على أساس من الغلبة والقهر وتهميش بقية المكونات لا يمكن أن يستمر. وبالتالي، فإما أن يعاد بناء الدولة على أسس جديدة، تجعل من المواطنة المتساوية حقيقة راسخة، وإما أن تستمر دوامة العداء والتفكك، بما قد يدفع بعض المكونات إلى التفكير بخيارات أخرى.

إن من موجبات خيار "الإمساك بمعروف"، إن كنا راغبين باستمرار العيش المشترك، العمل الجاد على صياغة عقد اجتماعي عادل يقوم على الحرية والعدالة والمساواة وتكافؤ الفرص ورفض احتكار السلطة ومركزيتها حتى لا نصل إلى خيار الطلاق البائن. مع الأسف يبدو أن خيار السلطة الجديدة وممارساتها، حتى الآن على الأقل، تدفع بوعي وإرادة منها، أو بجهل وشعور بفائض القوة، نحو تفكيك البنية الوطنية السورية وفرض حالة إخضاع كامل على عموم المجتمع لمصلحة مشروع إسلاموي تعتقد أنه الحصن الآمن الذي يحميها ويحصنها من مغادرة السلطة يومًا، غير عابئة بمترتبات هذا السلوك وما يدفع إليه على مستوى قدرة الحفاظ على وحدة سوريا.

كثير من النخب السورية السياسية والاقتصادية أبدت رفضها واستياءها من المسار الذي اختطته السلطة لعملها، وطريقة إدارتها لشؤون البلاد، ودعت السلطة بدافع من حرصها على بلدها إلى توسيع دائرة المشاركة، وطالبت بعقد مؤتمر وطني ليكون مؤتمرًا تأسيسيا لجمهورية جديدة تقطع مع الماضي الاستبدادي، يتوافق فيه السوريون على المبادئ الوطنية والدستورية الرئيسة والثابتة، لكن مع الأسف لا تزال السلطة لا تعير تلك المطالب أي انتباه، وتتفرغ للاستجابة لإملاءات الخارج توسلًا لشرعية تظنها دائمة!

إن استمرار العلاقة السامة ليس قدرًا، فإما أن تتحول الشراكة الوطنية إلى عقد عادل يضمن المساواة والكرامة لكل السوريين على اختلاف مشاربهم وأفكارهم وقومياتهم ومذاهبهم وعلى قدم المساواة بينهم، أو أن نتحلى بالشجاعة الكافية للبحث عن طلاق حضاري، بعيدًا عن الحروب والدماء والقبور، ولنعلم أن الخيار والقرار ما زال حتى الآن على الأقل بأيدينا، فألهم يا رب عقولنا سبل الرشاد.

مشاركة المقال: