رغم الأزمات والصراعات التي شهدتها سوريا في السنوات الأخيرة، لا يزال فن النحت يحاول الحفاظ على مكانته في المشهد الثقافي، في مواجهة تحديات كبيرة يواجهها الفنانون، بحسب عنب بلدي – سندريلا البلعة.
تأثرت عمليات الإنتاج والتسويق لهذا الفن بالظروف الاقتصادية وضعف الدعم، لكن هناك من يتمسك بالحفاظ عليه، باعتباره جزءًا لا يتجزأ من هوية سوريا الحضارية على مر العصور.
الفنان التشكيلي سامي زاهدة يؤكد أن فن النحت في سوريا، بتاريخه العريق الممتد من الحضارات الآشورية والآرامية وصولًا إلى الحقب المعاصرة، لا يزال يعاني من الإهمال وقلة الدعم.
في حديثه لعنب بلدي، ركز زاهدة على الواقع الحالي وضبابية المشهد للنحت والفنون التشكيلية السورية، مسلطًا الضوء على جانبي الحقوق والحريات.
حرية الفن بعد التحرير
عن تجربته في فترة الحرب، أوضح التشكيلي زاهدة أن الحرب تركت بصمتها العميقة على موضوعاته التشكيلية، حيث أصبحت مفرداته الفنية انعكاسًا مباشرًا للواقع، مصورًا من خلال أعماله الألم والقهر والهجرة والأزمات الوجودية، ومعيدًا صياغة هذه المفاهيم بلغته البصرية المحملة بالأحاسيس.
يرى زاهدة أن فن النحت كان في "حالة سيئة جدًا" قبل مرحلة التحرير، لأسباب عديدة، أبرزها هجرة عدد كبير من الفنانين مع بداية الثورة السورية بسبب تدهور الأوضاع الأمنية، وفقدان بعضهم مراسمهم بالكامل، وتدمير ورشاتهم، إضافة إلى الحصار وتدهور الاقتصاد اللذين حالا دون نقل الأعمال أو تسويقها بالشكل المطلوب، على الرغم من وجود معارض سنوية محلية وبعض الفعاليات الخجولة.
أما بعد التحرير، فيتحدث زاهدة عن غياب أي فعالية فنية تعنى بالنحت من قبل اتحاد الفنانين التشكيليين أو وزارة الثقافة، مؤكدًا أنه "لا توجد ورشات، ولا مبادرات، ولا حتى خطط واضحة لدعم هذا الفن، رغم أهميته ورمزيته في التعبير عن تاريخ وحضارة الشعوب".
أكد زاهدة أنه لا يواجه أي قيود على حرية التعبير، ويتحرك في مجاله الإبداعي بحرية تامة، معتبرًا أن الفن لا يحتمل القيود ولا يمكنه أن يعيش في بيئة معقدة، وإلا فقد جوهره.
لكنه يرى أن النحت لا يزال فنًا نخبويًا في سوريا، فالمعارض لا يحضرها سوى المهتمين بالفن التشكيلي والنحت بشكل خاص، ولا يزال محاطًا بمفاهيم دينية واجتماعية تحرّمه أو تحرّم التشخيص، "وهذه الذهنية ما زالت موجودة للأسف".
غياب الدعم المؤسسي وندرة المواد
أشار التشكيلي زاهدة إلى وجود عدد من صالات العرض، سواء التابعة للقطاع العام أو الخاصة في سوريا، إلا أن البنية التحتية لا تزال بحاجة لإعادة تأهيل وتطوير، لتصبح منصات حقيقية لعرض التجارب النحتية. وفيما يخص العالم الرقمي، أوضح أن كل فنان لديه منصته الخاصة على وسائل التواصل الاجتماعي، وهو أمر إيجابي ساعد على عرض الأعمال وتسويقها بشكل شخصي، خاصة في ظل غياب الدعم المؤسسي.
يواجه الفنانون صعوبة كبيرة في الحصول على المواد الأساسية، ما اضطر زاهدة للابتكار، حيث استخدم مواد من الطبيعة، مثل الصلصال، بعد تجفيفه وحرقه في الفرن بدرجات حرارة محددة، بسبب ارتفاع الأسعار وندرة الخامات. واعتبر أن هذه الخامة تخدمه فنيًا وتمنحه حرية أكبر في التعبير.
التعليم الأكاديمي.. الحاضن الأخير لفن النحت
يرى الفنان سامي زاهدة أن المؤسسات الأكاديمية، وعلى رأسها كليات الفنون الجميلة في سوريا، تلعب اليوم الدور الأهم وربما الأخير في الحفاظ على فن النحت من التلاشي الكامل، لكنها تواجه تحديات كبيرة تتعلق بالمناهج، ونقص التجهيزات، وضعف الارتباط بين الجانب النظري والعملي. وأكد أن الكلية لها دور كبير برفد الحركة الثقافية والمشهد التشكيلي السوري بفنانين شباب، وساعدت على تأهيل وتخريج أسماء مهمة على المستوى المحلي والعالمي.
شدد زاهدة على ضرورة ربط التعليم الأكاديمي بالواقع الفني الحي، من خلال ورشات تطبيقية منتظمة، وتكليف الطلاب بمشاريع حقيقية تُعرض لاحقًا ضمن صالات عامة، كي يشعروا بأهمية ما يقدمونه، وتتحول التجربة التعليمية إلى انطلاقة مهنية حقيقية.
“النحت ليس للجميع.. بل لمن آمن به”
قال زاهدة: "لا يمكن لجيل كامل أن يُقبل على فن النحت"، معتبرًا أن هذا المجال يحتاج إلى موهبة حقيقية، ودراسة أكاديمية، وبحث عميق، لأن "النحت ليس مجرد مهارة يدوية، بل فلسفة وتفكير بصري عميق، لا يتقنه إلا من آمن منذ البداية بدوره كوسيلة للتعبير عن الذات والواقع".
ختم التشكيلي زاهدة قائلًا: "نأمل أن تكون الحكومة جادة في دعم هذا الفن، فعليها أن توفّر بنى تحتية حقيقية وورشات عمل، ومعارض داخلية وخارجية، ومتاحف، وشبكات تسويق عالمية، والأهم هو الاعتراف بأهمية النحت كفن متجذر في حضارتنا، لا يمكن السماح له بالموت في الظل".