شهد السوريون في الأسبوع الماضي أحداثًا متفرقة الظاهر، لكنها متقاربة في جوهرها، حسب رأي أحمد عسيلي. بدأت الأحداث بمقال لياسين الحاج صالح تناول فيه ما أسماه "الشوفينية السنية"، وهو توصيف يتماشى مع مساره الفكري الأخير. أثار المقال نقاشًا واسعًا حول مضمونه وتأثير المصطلح على الواقع السوري الهش.
بالتزامن تقريبًا، دعا الشيخ الهجري من السويداء إلى إقامة إقليم درزي مستقل، وتزامن ذلك مع نشاط في أوساط الجاليات الدرزية بأوروبا، حيث دعت لتنظيم مظاهرات ووقفات احتجاجية بخطاب مماثل لخطاب الشيخ الهجري. كما ظهر بيان تأسيسي لمجلس جديد باسم "مجلس شمال وغرب سوريا"، يدعو إلى إقامة إقليم علوي في الساحل، وهو ما أعاد إلى الأذهان خطابات "الكيان العلوي". وقد حظي هذا الإعلان بتغطية إعلامية واسعة.
يرى عسيلي أن هذه الأحداث المتزامنة تكشف عن تأسيس خطاب معارض قائم على الهوية الطائفية، في وقت كان يُفترض أن يميل الخطاب نحو الوحدة الوطنية. ويتساءل الكاتب عما إذا كانت هذه الدعوات تضر بالسلطة أو بحلفائها المحافظين، ويجيب بالنفي، موضحًا أنها تدفع المكون السني للشعور بالخطر، فالخوف يؤدي إلى الانغلاق الهوياتي بدل الانفتاح.
بهذا المعنى، لا تضعف المعارضة الجناح المحافظ في السلطة، بل تقدم له خدمة كبيرة، إذ تمنحه فرصة لتغذية خوف الأكثرية من التهميش، ما يدفعهم للالتفاف حول خطاب سني واضح أو حتى حول النظام نفسه باعتباره الأمان الأخير. وبما أن المعارضة السورية الحالية تحمل ملامح طائفية واضحة، فإن هذا الانغلاق سيبدو استجابة طبيعية، مما يؤدي إلى إعادة إنتاج الخوف الطائفي بأدوات معارضة تخدم استمرار البنية نفسها.
يشير الكاتب إلى أن هذه الآلية ليست جديدة على السوريين، فنظام الأسد مارسها حين ضخم خطر "الطليعة المقاتلة" لـ"الإخوان المسلمين"، وصورهم كخطر وجودي يهدد الدولة، ما زاد من تشبث القاعدة الشعبية به وعمق خوف الطائفة العلوية من انهياره. وحتى بعد عقود من اختفاء التنظيم، ظلت المدارس تلقن الأطفال شعارات تحذر من "عدو" لم يعد موجودًا، وهي آلية تقوم على الإنكار وخلق "عدو وهمي" عبر آلية الإسقاط، لتبرير القبضة الأمنية وإدامة الشرعية.
لا يعني هذا أن المعارضة وحدها مسؤولة، فالسلطة هي من وضعت المسرح أولًا، حين صاغت السياسة على قاعدة الطائفية وحولتها إلى معادلة أمنية-هوياتية. السلطة لم تكن مجرد مستفيد من الأخطاء، بل هي المهندس الأول لها عبر استثمار الخوف وصناعته، لذلك حين تعيد المعارضة إنتاج الخطاب الطائفي، فهي تلعب ضمن الملعب الذي رسمته السلطة وبالأدوات التي تركتها لها.
اليوم، يحتاج المعارضون إلى قليل من التضخيم ليجد النظام نفسه مستفيدًا مرة أخرى، فالشيخ الهجري مجرد رجل دين محلي، وفكرة قيامه بتوحيد 40 تنظيمًا مسلحًا ستعطي انطباعًا وكأنه قائد جيش حقيقي، مع أن مشروع استقلال السويداء غير عملي، ولن يجلب لأهلها سوى الضرر والحصار، أما المجلس الساحلي فلن يتجاوز حدوده على "فيسبوك"، وكتابات ياسين الحاج صالح ليست جديدة، لكن تضخيم هذه الأحداث يكفي لتغذية المخاوف، ومن ثم إعادة اصطفاف الأكثرية خلف النظام أو خلف خطاب طائفي مضاد.
يختتم عسيلي بالقول إن الخوف يولد الانغلاق، والانغلاق يعيد إنتاج الانقسام، ومع ذلك نكرر الخطأ للمرة الثانية، كأننا لم نتعلم شيئًا من التاريخ، من تضخيم "الطليعة المقاتلة" في السبعينيات إلى خطاب "الشوفينية السنّية" وأقاليم السويداء والساحل اليوم، والنتيجة واحدة، مزيد من التشبث بالسلطة، ومزيد من انسداد أفق التغيير. ويؤكد على ضرورة التوقف عن ممارسة سياسة مفتاحها الخوف والمشاعر، والانتقال إلى سياسة العقل والتفكير والمحاكمة المنطقية، وتأسيس معارضة حقيقية، ليست طائفية ولا انفعالية، بل واقعية، هدفها الأول حماية الأرواح، وبناء مشروع وطني جامع، فالخطاب غير الطائفي لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية.