عاشت سوريا منذ استقلالها رحلة بحث مضنية عن مفهوم "الدولة". لكن، خلال معظم تلك السنوات، لم يتحقق هذا الهدف، وظلت محكومة بـ"أشخاص" في السلطة وعقلية "دولة الرئيس" بدلاً من "رئيس الدولة".
سناك سوري _ محمد العمر
في كتابه "مفهوم الدولة"، يتناول المفكر المغربي "عبد الله العروي" "عقلانية الدولة" كمؤسسة وهيكل، لا مجرد شخص الحاكم. يرى أن هدفها تنظيم المجتمع بقواعد وقوانين مكتوبة، وأنها أسمى من مجرد "سلطة". ويشترط فيها "تجسيد الأخلاق"، معتبراً أنها حين تتخلى عن هذا الشرط، تصبح محكومة بالفناء.
من جهة أخرى، يشدد "العروي" على موضوعية الدولة التي تنفصل عن ذات السلطان، وموضوعية القانون الذي ينفصل عن ذات القاضي أو الوليّ، وموضوعية المسطرة القضائية التي تنفصل عن ذات المتقاضي، وإمكانية التنبؤ بسلوك السلطان والولي والقاضي وكل من له نفوذ.
حاول آباء الاستقلال الأوائل بناء دولة في سوريا، لكن الفرصة كانت ضيقة وقصيرة قبل أن تبدأ حقبة الانقلابات العسكرية التي تتناقض مع فكرة "دولة المؤسسات والقانون" وتعاديها، وتحولها إلى فكرة "دولة الرئيس أو الزعيم"، القائمة على أن الحاكم فوق المحاسبة والمساءلة ويملك حرية مطلقة في تصرفاته وقراراته، فهي "دولته" وله أن يفعل فيها ما يشاء.
على سبيل المثال، عندما يتجاوز المواطن "س" إشارة مرورية، يتوقع تلقي مخالفة وغرامة. ولكن في حالة عدم "موضوعية الدولة"، فإن المواطن "ع" يتجاوز الإشارة بثقة بأن نفوذه ومكانته لن يسمحا لأحد بمخالفته وتغريمه.
أما المثال الواقعي لهذه المسألة فهو تطبيق قانون جرائم المعلوماتية على صحفية سورية بسبب منشور على فيسبوك بدعوى إثارة النعرات الطائفية والتحريض، مقابل تجاهل مئات آلاف المنشورات والتعليقات الطائفية والتحريضية لآخرين لأن موقفهم يوالي السلطة.
التجربة السورية مع الدولة
حاول آباء الاستقلال الأوائل بناء دولة في سوريا، لكن فرصتهم كانت ضيقة وقصيرة قبل أن يبدأ زمن الانقلابات العسكرية التي تناقض فكرة "دولة المؤسسات والقانون" وتعاديها، وتحولها إلى فكرة "دولة الرئيس أو الزعيم"، القائمة على أن الحاكم خارج نطاق المحاسبة والمساءلة ويملك مطلق الحرية في تصرفاته وقراراته فهي "دولته" وله أن يفعل فيها ما يشاء.
في فترة "الوحدة" مع "مصر"، ترسخت الأجهزة الأمنية كأدوات قمعية تفرض الطاعة والتسليم لـ"القائد الأوحد" الذي لا ينازعه في الحكم أحد ولا يحق لأحد مناقشته في قراراته أو حتى نصحه، فغالباً ما تصل درجات تقديس الحاكم إلى حدود التأليه والتنزيه عن الخطأ.
ولا داعي للقول أن الأمر ينطبق على مرحلة حكم "البعث" منذ 1963-2024، حين كانت الأمور تصل إلى مفارقات مذهلة، فالحكّام وبطانتهم يخرقون القوانين دون أدنى احترام، بما في ذلك مثلاً أن "بشار الأسد" وضع دستور 2012 و مئات المرات، ما يفسّر عقلية الحاكم الذي يرى نفسه أعلى من القوانين وأسمى من الدستور.
دولة ما بعد سقوط النظام
بعد 8 كانون الأول وسقوط نظام الأسد، عادت الفرصة من جديد لاستعادة رحلة بناء الدولة، تلك الدولة التي يتطلّع إليها السوريون بكل ما تحمله معها من سيادة قانون على الجميع وعدالة ومساواة بين المواطنين ورفض أي انتهاك للحقوق بحق أي مواطن دون تمييز.
في هذه المرحلة جاءت السلطة الجديدة ونشأ معها جمهورها الذي بدا منتشياً بالانتصار على النظام السابق إلى درجة إطلاق شعارات تطلب من السلطة أن تأخذ صلاحيات مطلقة مثل "من يحرر يقرر".
وكان من الطبيعي أن ترتكب السلطة الجديدة وأفرادها أخطاءً مع بداية الوصول إلى الحكم للمرة الأولى، لكن جمهورها كان متعصّباً في موالاته لها ويرفض أن يخطّئها حتى وإن اعترفت هي نفسها بالخطأ واعتذرت وتراجعت عنه، ليعود الجمهور ذاته ويمتدح تواضعها ويلمّح إلى أن الشعب لا يستحق هذا التواضع.
اختبار الدولة
المفترق الأساسي كان في آذار مع أحداث الساحل التي شهدت ارتكاب مجازر طائفية موثّقة حتى على أيدي الجناة أنفسهم بما فيهم عناصر وزارتي الدفاع والداخلية، أي ممثلو السلطة الذين يفترض أن مهمتهم الأساسية حماية الناس من التهديد والخطر لا أن يتحوّلوا هم بأنفسهم إلى مصدر للخطر وارتكاب الجرائم بحق المدنيين العزّل.
قوات أمن سورية في اللاذقية يوم 9 آذار 2025 _ وكالة الصحافة الفرنسية
كانت الذريعة الأساسية للهجوم على الساحل، الرد على استهداف عناصر قوات الأمن العام، لكنها سرعان ما تحوّلت إلى استدعاء "الفزعة" من كل المحافظات للثأر من "العلويين"، وفي هذه اللحظة تحديداً لم تلعب الدولة دورها في وقف هذه الفوضى ومنع كل مسلح خارج إطار القوات الرسمية من الوصول وارتكاب الانتهاكات، وشنّ حملة أمنية رسمية ومنظّمة تحيّد المدنيين عن الواجهة وتستهدف مسلحي "الفلول" كما تسمّيهم "دمشق"، لكن ذلك لم يحدث وفتح الباب لمشاركة الجميع في مجزرة طائفية مباشرة.
سيتكرر هذا السيناريو في "السويداء"، فبعد أن أعلنت الحكومة عزمها بسط سيطرتها على كافة أراضيها تحت عنوان حق الدولة في بسط السيادة، سارعت إلى إفساح المجال وفتح الطرق أمام مسلحي "العشائر" لاجتياح السويداء وارتكاب أعمال وصفت بالإبادة، عبر انتهاكات موثّقة بالفيديو أيضاً وقائمة على أساس طائفي.
الدولة ذاتها التي تريد سحب سلاح فصائل "السويداء"، باركت سلاح "العشائر" و"فزعتهم" وأمّنت وصولهم إلى المحافظة الجنوبية للمشاركة في القتال، لتتكرر الانتهاكات وجرائم القتل خارج إطار القانون في مشهد فوضوي دموي تحت إشراف "الدولة".
مسلحو العشائر في السويداء _ انترنت
السلطة في عدة حوادث كبرى مثل "الساحل، أشرفية صحنايا، جرمانا، السويداء، السومرية" لم تتصرف بمنطق "الدولة" العقلانية الموضوعية التي تعامل الجميع بالتساوي وتطبّق القانون على الجميع، وتتكوّن من مؤسسات لا أفراد وتتحوّل إلى بنية لا شخص الحاكم أو صاحب النفوذ.
منطق الدولة يفترض أولاً حماية الناس من أي انتهاك أو جريمة، ورعاية مصالحهم وحقوقهم دون تمييز على أساس عرقي أو مذهبي أو جنسي أو إثني، ودون ازدواجية معايير في تطبيق القانون.
والمفارقة أن السلطة التي كانت أحوج ما تكون للاستقرار لترتيب البيت الداخلي أولاً وإثبات قدرتها على التنظيم وقيادة المرحلة الانتقالية ثانياً وإعطاء صورة جيدة عن نفسها للخارج ثالثاً، وجدت نفسها منصاعةً لأصوات التحريض وضجيج العنف ومتورطة في ارتكاب انتهاكات مرة تلو أخرى على وقعِ دعوات تمجيد العنف والضرب بيد من حديد وإراقة دماء المخالفين، وهي الطريقة التي لا تصنع "دولة" بل تكرر تجربة "سلطة الفرد" التي عانت منها سوريا عقوداً طويلة، والتفريط بفرصة بناء دولة الحق والمساواة والقانون، الدولة العقلانية، سيضيع الكثير على السوريين دماءً وعمراً وسنواتٍ إضافية من التفريط بالحلم المؤجل.