لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد إضافة تقنية في استراتيجية الدفاع والهجوم لجيش العدو، بل أصبح الآن ركيزة أساسية لعقيدة قتالية جديدة، حسبما يرى حسين صبرا. هذا التحول يشمل التفوق الناري والمناورة، وصولًا إلى الهيمنة المعلوماتية وسرعة اتخاذ القرارات، مما حول فلسفة الحرب إلى ما يشبه خط إنتاج صناعي للموت، حيث يتم تقليل الوقت بين الاستشعار والإطلاق إلى ثوانٍ، وتوسيع تعريف "الهدف"، وتخفيف قواعد الاشتباك، مع القبول المسبق بـ "هامش إحصائي" للأخطاء. هذا ليس مجرد تحديث للمعدات، بل هو انقلاب عقائدي يربط الخوارزمية بالمقذوف، ويجعل السرعة معيارًا أخلاقيًا بديلًا عن الدقة.
في عام 2020، أطلق رئيس الأركان آنذاك، أفيف كوخافي، خطة "مومنتوم/تنوفا"، بهدف إعادة هيكلة شاملة لصناعة الحرب داخل الجيش، وتحويلها إلى "آلة حرب ذكية" قادرة على تدمير قدرات الخصم بسرعة قياسية.
جوهر الخطة هو كسر "عنق الزجاجة البشري"، كما وصفه أحد كبار القادة الإسرائيليين، أي محدودية قدرة المحللين والقادة البشريين على معالجة الكم الهائل من البيانات المتدفقة من ساحة المعركة الحديثة.
تُرجمت الخطة بإنشاء "مديرية الأهداف" داخل شعبة الاستخبارات عام 2019، وهي وحدة تضم مئات الضباط والجنود وتعتمد على قدرات الذكاء الاصطناعي. وظيفتها هي نقل توليد الأهداف من الحرفة البطيئة إلى الصناعة المتسارعة واسعة النطاق، بحيث يتحول توليد بنك الأهداف إلى إنتاج متواصل لا يختنق بعامل الموارد البشرية، وفقًا لدراسة أعدها "مركز الاتحاد للأبحاث والتطوير".
هذا الانتقال من "الاستهداف الحرفي" إلى "الاستهداف الصناعي" يسقط آخر خطوط الدفاع الأخلاقية في الحرب الحديثة. فحين تُفكّك الخوارزمية الهدف إلى سمات رقمية، وتُنقل سلطة الفرز إلى نظام توصية، يصبح المعيار هو السرعة والكم، لا اليقين والضرورة العسكرية الملموسة.
مع إطلاق "مومنتوم"، دخلت الأنظمة حيز التشغيل القتالي. في أيار 2021، وُصفت عملية "سيف القدس/حارس الأسوار" بأنها "أول حرب ذكاء اصطناعي". خلال هذه العملية، تم استخدام نظام "مصنع النار" لأول مرة في القتال لتخطيط الغارات وتقدير الذخائر والأولويات بسرعة، وكشف مركز الذكاء الاصطناعي في 8200 عن استخدام نظام لتحديد قادة وحدات الصواريخ. كان نظام "حبسورا" في بداياته وأنتج نحو 200 هدف خلال تلك الجولة. وفي آب 2022، في عملية "وحدة الساحات/بزوغ الفجر"، جرى الربط بين أذرع الجيش على منصة الذكاء الاصطناعي بطريقة موحدة لتبسيط القيادة والسيطرة وإظهار صورة شاملة للجاهزية.
7 تشرين الأول 2023 وما بعده: "العاصفة المثالية" للأتمتة تحول اليوم الفاصل إلى نقطة انعطاف نفسية وعملياتية. الإخفاق لم يولد الأنظمة من عدم، لكنه أزال القيود الأخلاقية والمؤسسية التي كبلت استخدامها. على المستوى النفسي المؤسسي، قُدمت الخوارزمية كدواء بارد لفشل بشري: تقليل التحيز، التعب، سوء التقدير.
وعلى المستوى العملياتي، افترضت المؤسسة أن اختراقات "حماس" طاولت وثائق وقوائم وأدوات مراقبة ونقاط ضعف، أي أن قواعد اللعبة تغيرت، وأن الأنماط القديمة كُشفت ويجب استبدالها باكتشاف سمات جديدة عبر التعلم الآلي. عمليًا، أُطلق العنان لـ "لافندر" و "حبسورا".
حدد "لافندر" خلال الأسابيع الأولى ما يصل إلى 37 ألف فلسطيني كأهداف عسكرية، ونُفذ 15 ألف هدف في أول 35 يومًا.
تقلص الإشراف البشري، وجرى تكامل الأنظمة التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي:
- نظام "لافندر" للأفراد
- نظام "حبسورا" للمباني
- نظام "أين أبي؟" لتوقيت الضربة في المنازل ليلًا
ما حدث بعد 7 تشرين الأول لم يكن فقط تسريعًا تقنيًا، بل "تحريرًا سياسيًا" لقواعد حرب مختلفة. هدف "القضاء التام" دفع نحو اقتصاد أهداف يتطلب إنتاجًا يوميًا كثيفًا، ففُضل الخطر المُمأسس على النقاش الأخلاقي، وغابت "حالة التمييز" وراء لوحة قيادة موحدة.
ترسانة الأنظمة: من فرز البشر إلى هندسة الضربات
- "لافندر": آلة اغتيال على نطاق سكاني. يعتبر هذا النظام من أخطر أنظمة الذكاء الاصطناعي، وهو عبارة عن قاعدة بيانات ونظام توصية يحدد الأهداف البشرية على نطاق واسع. يُدرّب على بيانات عناصر معروفين من "حماس" و"الجهاد" وغيرهما، ويستخرج مئات السمات (مجموعات واتساب، تبديل هواتف، مواقع تكرارية…) ويمسح سكان غزة (2.3 مليون) أو لبنان (4.5 مليون) ويمنح كل فرد "درجة" من 1 إلى 100 لاحتمال كونه مسلحًا. من يتجاوز العتبة يُدرج هدفًا. في الأسابيع الأولى من حرب 2023، وصل عدد المدرَجين إلى عشرات الآلاف، مع "مراجعة بشرية" لا تتجاوز 20 ثانية لكل حالة.
- "حبسورا/الإنجيل": مصنع أهداف للمباني والهياكل. نظام يحلل صور أقمار صناعية ولقطات مسيرات وغيرها لتوليد أهداف ثابتة ويقدم توصيات للمحلل البشري. مقارنة بإنتاج بشري سنوي يقارب 50 هدفًا في غزة، يستطيع "حبسورا" إنتاج نحو 100 هدف يوميًا (200 هدف خلال 10–12 يومًا). يصنف الأهداف التكتيكية (مخازن، منصات، الأنفاق تحت الأرض، منازل نشطاء).
- "مصنع النار": أتمتة التخطيط والهجوم. مرحلة لاحقة لـ "حبسورا" تحول التوصية إلى خطة قصف، يحسب الذخائر المثلى لكل هدف، والجداول الزمنية، وأولوية التخصيص لمنصات الإطلاق والطائرات. استُخدم قتاليًا عام 2021 ليهبط بزمن تجميع "الحزمة الهجومية" من ساعات إلى دقائق.
- "أين أبي؟": توقيت الضربة في المنزل. أداة تتبع جغرافي للأفراد الذين يحددهم "لافندر"، ترصد إشارات الهواتف وتنذر حين يدخل "الهدف" منزله ليلًا، بما يسهل الضربة ويزيد احتمال قتل العائلة بأكملها. أداة لصيقة بسياسة استهداف المنازل.
منظومات "الذئب": قاعدة بيومترية شاملة. هذه المنظومات تشكل شبكة المراقبة الرقمية الشاملة التي تغذي أنظمة تحديد الأهداف بالبيانات.
- نظام "الذئب الأحمر": نظام كاميرات مثبت عند نقاط التفتيش، يقوم بمسح وجوه المارين تلقائيًا ومقارنتها بقاعدة البيانات لتحديد ما إذا كان يجب السماح لهم بالمرور أو اعتقالهم.
- نظام "الذئب الأزرق": تطبيق على الهواتف الذكية للجنود، يسمح لهم بالتقاط صور للفلسطينيين وتحميلها مباشرة إلى قاعدة البيانات.
- نظام "قطيع الذئاب": قاعدة البيانات المركزية التي تحتوي على جميع المعلومات التي تم جمعها، بما في ذلك الصور، والعناوين، والعلاقات الأسرية، والتاريخ الأمني لكل فلسطيني.
هذه الشبكة تخرج "السيطرة" من الميدان إلى "السجل الحيوي الخوارزمي" للمجتمع. يصبح كل جسد "مفتاحًا" في قاعدة بيانات، وكل علاقة عائلية "حافة" في رسم بياني، وكل حاجز نقطة تحديث في نظام تصنيف دائم.
"مصنع الاغتيالات الجماعية": الكمية تلتهم الدقة. قبل الدمج الواسع للذكاء الاصطناعي، كان استهداف "الأهداف البشرية" مسارًا متعدد الحلقات: تعريف، تتبع، لحظة مناسبة، موافقات. كان المحصول محدودًا ويتركز على قادة الصفوف الأولى. دخول أنظمة مثل "حبسورا/الإنجيل" و"لافندر" غير المعادلة جذريًا: لا عناية بالنوعية بقدر ما هو اندفاع نحو الكمية.
- توسيع تعريف الهدف: بعد 7 تشرين الأول 2023، صُنِّف كل عنصر في حركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي" هدفًا مشروعًا، بغض النظر عن الرتبة. توسع بنك الأهداف من عشرات إلى عشرات الآلاف، فصارت الأتمتة "ضرورة عملياتية".
- أولوية السرعة والكفاءة: اعترف الناطق باسم الجيش في 9 تشرين الأول بأن التركيز انتقل إلى "الضرر لا الدقة"، ملخصًا روح العقيدة الجديدة.
- قبول هامش خطأ إحصائي: استُخدم "لافندر" على نطاق واسع رغم معرفة معدل خطئه (نحو 10%). صار الخطأ "تكلفة" مقبولة داخل نموذج إدارة المخاطر.
- تخفيف قواعد الاشتباك: عتبات مسبقة للخسائر المدنية: حتى 15–20 مدنيًا مقابل مسلح منخفض الرتبة، وأكثر من 100 مقابل قائد كبير. هكذا أُخرج تقييم الضرر من سياقه الفردي إلى "جدول تسامح" جاهز.
ما سبق يعني أن "التحقق الأخلاقي" استُبدل بـ "ترجيح إحصائي". حين يُقنن القتل الجماعي بعتبات رقمية، تغدو الأهداف المدنية متحولًا داخل معادلة كفاءة نيران، لا مبدأً حاكمًا. هذه نقلة نوعية من الردع إلى عقيدة "التكسير الشامل" لبيئة العدو الاجتماعية والبنيوية.
"الإنسان والآلة": "ختم مطاطي" باسم "التحكم البشري". سُوّق لمفهوم "فريق الإنسان والآلة" فكريًا: الآلة تُنتِج وتُصنِّف آلاف الأهداف بسرعة، والإنسان يُصدر القرار النهائي.
لكن الشهادة الميدانية تقول شيئًا آخر: ضغط السرعة، والتحيز نحو مخرجات النظام، وحجم التدفق، حوّل المراجعة البشرية إلى ختم شكلي خلال 20 ثانية يقتصر على التأكد أن الهدف "رجل". هكذا يُفرَّغ "التحكم البشري الهادف" من مضمونه، وتصبح مسؤولية القرار مُعلقة على قوس الخوارزمية.
يتحول الإنسان من صانع قرار إلى "ضامن قانوني" لمخرجات آلة، يوفر غطاءً إداريا للأتمتة، من دون رقابة معرفية حقيقية. الخطر هنا ليس في دقة النموذج فحسب، بل في الشرعية الأخلاقية لبنية اتخاذ القرار نفسها.
من الردع إلى "أهداف القوة": عقاب جماعي بواجهة تقنية. امتدت العقيدة الجديدة إلى "أهداف القوة": أبراج سكنية، جامعات، بنوك، ومؤسسات عامة. الهدف المعلن داخل الجهاز: خلق سخط وضغط على المقاومة عبر معاقبة بيئة المدنيين نفسيًا واقتصاديًا. نظام "حبسورا" لعب دور "الموصي" بقصف آلاف من هذه الأهداف، خصوصًا في الأيام الأولى، بما يخرج الحرب من استهداف القدرة العسكرية إلى تحطيم المجتمع بوصفه "رافعة ضغط".
هذا الاستخدام يشرعن ضرب البنية المدنية باعتبارها "رافعة عسكرية غير مباشرة". هنا تتبدى ازدواجية العقيدة: تستخدم لغة "الكفاءة" لإضفاء فاعلية على العنف غير التمييزي، وتعيد تعريف "المشروع عسكريًا" على نحو يذيب الحدود بين العسكري والمدني.
كيف وصلوا إلى هنا؟ مسار من عقدين نحو "آلة الحرب الذكية".
- البذور التأسيسية (2000–2010): بناء مخزون البيانات. في سياق "أمة الشركات الناشئة"، لعبت الوحدة 8200 (وحدة استخبارات الإشارات في جيش العدو) دور الحاضنة التقنية: جمع واعتراض اتصالات، منظومات كاميرات، قواعد بيانات بيومترية واسعة في الأراضي المحتلة. لم يكن "الذكاء الاصطناعي" مسيطرًا تقنيًا بعد، لكن مادته الخام تراكمت: بيانات ضخمة ستغذي لاحقًا نماذج التعلم الآلي.
- التجريب والدمج الأولي (2011–2019): اختبار المنصات وتوحيد الخبرة. قفزات التعلم العميق ومعالجة الصور حفزت التجريب المنهجي داخل الجيش. وهذا ما تجسد في نشاط خريجي الاستخبارات وراء تطبيق "Waze"، الذي جُرّب على سكان الضفة الغربية قبل استحواذ غوغل، بما يعكس علاقة تكافلية بين الجيش والقطاع المدني، واستخدام الأراضي المحتلة "مختبرًا حيًا".
في الدفاع الجوي، استُخدمت خوارزميات لتحسين اعتراض القبة الحديدية عبر تحليل راداري وتحديد مسارات الأولوية. عام 2019، تأسست "مديرية الأهداف" رسميًا: إعلان مؤسسي بأن المستقبل للأتمتة.
كفاءة خوارزمية لقتل مُقنن. ما جرى ليس "رقمنة" حرب قديمة، بل صياغة عقيدة جديدة: من الردع والاستهداف الدقيق إلى التدمير الشامل. تُنتج المنظومات بنك أهداف بشرية ومادية على نطاق صناعي، تُخفَّف قواعد الاشتباك سلفًا، وتُستباح البنية المدنية بوصفها "قوة ضاغطة".
يبدو أن جيش العدو قد وضع أسس نموذج قتالي جديد تُعامَل فيه الخوارزميات لا كأدوات فحسب، بل كشركاء في القرارين الاستراتيجي والتكتيكي. وستصبح ساحة الحرب المقبلة أسرع إيقاعًا وأكثر فتكًا وترابطًا، لكنها في الوقت نفسه أشد هشاشة والتباسًا وخطرًا على الإنسان. وسيعتمد قدر كبير من الأمن الإقليمي والعالمي على قدرة المجتمع الدولي في ابتكار أطر ملزمة تكبح هذه القوة التكنولوجية الجامحة قبل أن تفلت بالكامل من السيطرة البشرية.
أخبار سوريا الوطن١-الأخبار