"كل ساعة في الصحراء كانت مليئة بالخوف والجوع والعطش، وسط سرعات جنونية للسيارة ومطاردات الجيش المصري، بينما كان المهربون يستغلون حاجتنا ويبتزوننا عند كل محطة"، هكذا بدأ محمد حديثه عن رحلة عودته من السودان إلى سوريا عبر مصر. لم يجد محمد، الشاب السوري الذي كان يقيم في بورتسودان بالسودان، خيارًا للعودة إلى سوريا سوى الانطلاق في رحلة محفوفة بالمخاطر نحو القاهرة، عبر طريق سماه "طريق الموت"، لتجاوز دفع الغرامات المتراكمة عليه.
يعجز مئات السوريين في السودان عن دفع غرامات تصل قيمتها إلى نحو أربعة آلاف دولار أمريكي، بسبب التأخر عن تجديد إقاماتهم في ظل الحرب المشتعلة في هذا البلد منذ نيسان 2023، والتي شلت عمل الدوائر الرسمية وعاقت قدرتهم على متابعة معاملاتهم الرسمية. وتعود قضية الغرامات والضرائب إلى ما قبل الحرب أيضًا، إذ كانت السلطات السودانية تفرض ضرائب سنوية على إقامات العمل بحسب كل مهنة أو شريحة وظيفية. ومع توقف المؤسسات وتعطل النشاط الاقتصادي بعد اندلاع الحرب، تراكمت هذه الغرامات وتحولت إلى عبء مالي على المقيمين. هذا الواقع دفع بعضهم، مثل محمد نشيواتي (34 عامًا)، إلى المغامرة بحياتهم عبر طرق غير نظامية، بينما يبقى آخرون عالقين في انتظار حل رسمي.
رحلة محفوفة بالموت
ذكر محمد نشيواتي تفاصيل رحلته لعنب بلدي، حيث قضى ثلاثة أيام في الصحراء السودانية على متن سيارة صغيرة من نوع "بوكس"، مكتظة بالركاب. ووصف الرحلة نحو القاهرة بأنها محفوفة بالمخاطر عبر ما سماه "طريق الموت". الرحلة التي كلفته 400 دولار حتى الوصول إلى مصر، لم تكن مكلفة من الناحية المادية، بقدر تكلفتها الجسدية والنفسية، إذ كانت "أكبر من أن تقاس".
عاش نشيواتي ليالي قاسية من الخوف والجوع والعطش، وسط سرعات جنونية للسيارة خلال الرحلة، تصل أحيانًا إلى 200 كيلومتر في الساعة، ومطاردات متكررة من الجيش المصري. بدأت الرحلة داخل شاحنة صغيرة مكتظة بحوالي 14 شخصًا، مقيدين من الخلف لتجنب السقوط في أثناء القيادة السريعة. واستمرت لساعات طويلة عبر الصحراء مع توقف قصير للراحة، قبل أن ينقل الركاب إلى موقع صحراوي يعرف باسم "الرتدج"، حيث توجد خيام بسيطة ومقاعد لاستراحة المهربين والمسافرين.
المرحلة التالية نحو الحدود المصرية كانت الأخطر، إذ بدت آثار الاشتباكات واضحة على الطريق. سيارات محترقة متناثرة على الرمال، وقصص عن ركاب لقوا حتفهم بعد انقلاب مركباتهم أو إصابتها بالرصاص، بحسب ما قاله محمد.
استغلال مالي ومخاطر متواصلة
مع الوصول إلى نقطة حدودية قريبة من مصر، اضطر الركاب إلى السير سبع ساعات في عمق الصحراء حتى وصلوا إلى محافظة أسوان جنوب مصر. من هناك، استقلوا القطار إلى القاهرة في رحلة استغرقت 17 ساعة، قبل أن يتوجهوا إلى مدينة نويبع الساحلية على البحر الأحمر، وهناك، كانت عملية العبور باتجاه الأردن.
إجراءات العبور لم تكن معقدة، إذ اكتفت السلطات المصرية بختم جوازات السفر دون وضع إشارة تمنع من دخول البلاد مستقبلًا أو غرامات مالية لدخولهم الأراضي المصرية بطريقة غير شرعية، لعلمها بأن الوجهة النهائية للمسافرين هي سوريا. استقل محمد وبقية الركاب "عبّارة" إلى العقبة الأردنية، ومنها تابعوا رحلتهم برًا حتى الحدود السورية. رحلة استغرقت ثمانية أيام متواصلة، بدت خلالها القبور على امتداد الطريق شاهدة على حجم المخاطر التي يواجهها المهاجرون خلال محاولاتهم عبور الحدود.
معاناة مستمرة
رحلة محمد تعكس معاناة مئات السوريين العالقين في السودان، فمن جهة، تمنعهم الغرامات والضرائب المتراكمة من المغادرة بشكل نظامي، ومن جهة أخرى لا يملك كثيرون القدرة المالية أو الجسدية على خوض رحلة التهريب. عبد الله قلعجي، شاب مقيم ببورتسودان، يرغب بالعودة إلى سوريا، لكنه يجد نفسه محاصرًا بتراكم الغرامات التي تمنعه من المغادرة.
وذكر لعنب بلدي أن السوريين بعد رحيل الوفد السوري ظلوا في حالة من الغموض والارتباك، فالقرارات المتعلقة بالإعفاء من الغرامات والضرائب لم تصدر بعد. وكانت وزارة الخارجية والمغتربين السورية أعلنت، في 3 من آب الماضي، أن وفدًا تقنيًا من الوزارة سيلتقي السوريين الموجودين في السودان لتقديم مجموعة من الخدمات القنصلية العاجلة والمجانية.
وأوضح عبد الله أن غرامات التأخر في تجديد الإقامات أو دفع ضرائب العمل تصل إلى نحو أربعة آلاف دولار أمريكي، وأن الغرامات لم تُرفع بعد. وأكد أن بعض الموظفين السودانيين أشاروا إلى أن الخروج من البلاد مرتبط بسداد المستحقات المالية، ما يزيد من تعقيد الوضع. وأضاف أن الضرائب كانت تفرض على العاملين في السودان بنسبة 17% من قيمة الراتب بالحد الأدنى، وفق ما تقدمه الجهة المسؤولة عن العاملين لدائرة شؤون الأجانب. وترتفع القيمة مع تصاعد الشرائح الوظيفية، مثل المديرين والمناصب العليا، بحسب عبد الله.
ولفت إلى أن السوريين في السودان طالبوا بأن يعاملوا أسوة بالسوريين الذين غادروا البلاد عام 2023، والذين لم تفرض عليهم تلك الغرامات أو الضرائب حينها. وخلال فترة زيارة الوفد السوري إلى بورتسودان، منحت وثائق مرور لمن لا يملكون جواز سفر، وتجديد جوازات السفر لمدة سنة لمن يملكونها، على أن ترفع الغرامات لاحقًا. لكن بعد مغادرة الوفد، أبلغ الجانب السوداني السوريين بأن القرارات تحتاج بين يومين وثلاثة أيام لتصدر، إلى أن قرارات الإعفاء من الغرامات لم تصدر حتى الآن.
"الخارجية" تتابع
أوضح المكتب الصحفي لوزارة الخارجية والمغتربين لعنب بلدي، أن الوزارة تتابع أوضاع جميع المواطنين السوريين في الخارج، وتسعى لتذليل العقبات التي تواجههم. وفي هذا الإطار، وجه وزير الخارجية، أسعد الشيباني، بإرسال وفد تقني إلى السودان لتقديم الخدمات القنصلية للجالية السورية. كما تمت مناقشة التحديات المتعلقة بالغرامات والإقامات مع الجهات المعنية في الحكومة السودانية.
وأكد المكتب الصحفي أن الوزارة تعمل بتنسيق مستمر مع السلطات السودانية لإيجاد حلول مناسبة وفعالة لمشكلة الغرامات المترتبة على بعض المواطنين. وتجري حاليًا دراسة الخيارات المتاحة لتقديم تسهيلات تساعدهم على تسوية أوضاعهم بشكل قانوني، وتسهيل عودة من يرغب منهم إلى سوريا. وأشار المكتب إلى أن الوزارة وفرت قنوات تواصل مباشرة للمواطنين للإبلاغ عن أي صعوبات، سواء عبر السفارة السورية في القاهرة أو من خلال الرقم المخصص من قبل الوزارة.
وتهدف إلى تطوير آليات لمتابعة الحالات الخاصة لتسهيل مغادرتهم بطرق قانونية وآمنة، بعيدًا عن أي طرق غير شرعية. وأضاف المكتب الصحفي أنه لا يمكن في الوقت الحالي الكشف عن أعداد دقيقة للسوريين في السودان أو نسبة المتأثرين بالغرامات، لكنه أكد أن الموضوع "يحظى باهتمام بالغ"، وأن أي تحديثات أو قرارات جديدة سيعلن عنها فورًا عبر القنوات الرسمية للوزارة.
وجدد المكتب دعوة المواطنين للالتزام بالإجراءات القانونية المتبعة في السودان. وأكد استمرار جهود الوزارة لضمان سلامة المواطنين وحماية حقوقهم، مع التزامها بالبقاء على تواصل لتقديم كل الدعم الممكن.
سوريون عالقون في السودان يطالبون بآلية إجلاء
وفد من "الخارجية" في السودان
كانت وزارة الخارجية والمغتربين السورية أعلنت، في 3 من آب الماضي، أن وفدًا تقنيًا من الوزارة سيتوجه إلى السودان. وشمل عمل الوفد القنصلي تمديد جوازات السفر لمدة عام واحد فقط.
ومن ضمن عمل الوفد منح وثائق مرور مؤقتة صالحة للسفر إلى سوريا لمرة واحدة خلال 90 يومًا، سواء برًا أو جوًا، من دون أن تغطي هذه الوثائق تكاليف تذاكر الطيران. كما تضمن عمل الوفد تصديق الوثائق الرسمية للسوريين المقيمين في السودان.
وأوضحت الخارجية أن الوفد سيلتقي السوريين المقيمين هناك، وسيقدم مجموعة من الخدمات القنصلية العاجلة والمجانية. وأكدت الوزارة أن الوفد سيقدم خدماته للمواطنين بشكل مباشر ودون أي وسيط. وأشارت إلى أن الوفد لا يملك موقعًا إلكترونيًا أو مكتبًا مخولًا بتسهيل المعاملات.
ودعت الوزارة السوريين في السودان إلى الالتزام بالتعليمات والأنظمة المتعلقة بالسفر والتنقل بين الولايات.
وفد من "الخارجية" لتقديم خدمات قنصلية للسوريين بالسودان