أثارت عودة ظهور أحمد وعمرو، ابني رجل الأعمال محمد حمشو، المعروف بقربه من نظام الأسد المخلوع، في فعالية صندوق التنمية السوري، الجدل مجدداً حول تسوية شؤون رجال الأعمال المرتبطين بالأسد. وتبرع ابنا حمشو حينها بمبلغ مليون دولار أمريكي لصالح "الصندوق".
وكانت وكالة "رويترز" قد نشرت في 24 تموز الماضي تحقيقاً كشفت فيه عن تشكيل الحكومة الانتقالية السورية لجنة سرية يرأسها حازم الشرع، شقيق الرئيس السوري في المرحلة الانتقالية، وشخص أسترالي من أصول لبنانية يدعى أبراهام سكرية (أبو مريم الأسترالي). وتهدف اللجنة، بحسب التحقيق، إلى مفاوضة كبار رجال الأعمال الذين أداروا الاقتصاد السوري في عهد الأسد المخلوع، وجنوا ثروات من تهريب المخدرات والأسلحة، وجمع وصهر المعادن من المدن السورية التي أفرغها جيش الأسد من سكانها، وغيرها من النشاطات التجارية.
يتناول هذا التقرير، بالتعاون مع خبراء في السياسة والقانون، أسباب وتداعيات لجوء الحكومة السورية الجديدة إلى عمليات التسوية والتفاوض مع "حيتان المال" السابقين، ومستقبل العلاقة الجدلية بينهما.
مبررات أفرزها إرث الأسد الفاسد
بعد سقوط نظام الأسد في كانون الأول 2024، ورثت الحكومة السورية الجديدة اقتصاداً هشاً تسيطر عليه شبكات ضيقة من رجال الأعمال المرتبطين بالعائلة الحاكمة سابقاً. وقد بنت هذه الشبكات، التي وصفها الخبراء بـ"الأوليغارشية المالية" أو "حيتان المال"، نفوذها عبر الاحتكار واستغلال موارد الدولة.
أحد أعضاء "لجنة الظل" المكلفة بمتابعة أوضاع رجال الأعمال، قال لـ"رويترز" إن حجم الفساد في عهد الأسد لم يترك سوى خيارات قليلة للإصلاح الاقتصادي. كان بإمكان اللجنة إحالة رجال الأعمال المشتبه بحصولهم على مكاسب غير مشروعة إلى المحكمة، أو مصادرة الشركات مباشرة، أو عقد صفقات خاصة مع شخصيات من عهد الأسد لا تزال خاضعة لعقوبات دولية، لكنها اختارت التفاوض.
وكان وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك، ماهر خليل الحسن، قد صرح سابقاً لـ"رويترز" بأن ملف رجال الأعمال ضخم، فهم يسيطرون على اقتصاد الدولة، "ولا يمكنك ببساطة أن تطلب منهم الرحيل"، موضحاً أن الحكومة الجديدة لا تستطيع تجنب التعامل مع رجال الأعمال.
وفي هذا الصدد، يرى الباحث في الاقتصاد السياسي أيمن الدسوقي أن تعامل الحكومة الجديدة مع هؤلاء الرجال مؤقت ومرحلي، يأتي ضمن سياق اعتبارات براغماتية اقتصادية وسياسية. ويرى أن هؤلاء الرجال لا يمكن أن يكون لهم دور فعال في تنشيط الاقتصاد بالمستقبل، فهم لم يملكوا يوماً خبرة في بناء اقتصاد إنتاجي، بل عززوا اقتصاداً ريعياً وزبائنيًا يخدم مجموعة ضيقة.
وحذّر الدسوقي من أن إعادة تعويم هذه الشخصيات، ولو مرحلياً، تحت مبررات الضرورة ومقتضيات المصلحة، ستعزز من احتمالية إعادة إنتاج بنية الفساد، لا سيما في ظل ضعف المؤسسات، كما أن العقوبات المفروضة على بعضهم من شأنها أن تعرض الاقتصاد السوري لمخاطر عالية.
من جهته، يرى الباحث والمحلل السياسي نادر الخليل أن إرث الفساد الذي خلّفه الأسد المخلوع، والمتمثل باقتصاد رجال الأعمال، يمثّل واحدة من أعقد التحديات أمام السلطة الانتقالية، إذ سيطر المقرّبون من الأسد على قطاعات حيوية كالنفط والاتصالات والتجارة لعقود طويلة، ما يجعل أي محاولة لفك هذه المنظومة مرهونة بقرارات تفاوضية مع وجوه مرتبطة بالفساد.
كما تشغّل الشركات والمصانع التي يملكها رجال أعمال الأسد آلاف العمال والموظفين، وسيتسبب إيقاف هذه الشركات بانقطاع مصدر رزق هؤلاء العمال، وهو ما أكده وزير التجارة الداخلية السوري، ماهر الحسن، لـ"رويترز" في 13 شباط الماضي، بقوله، "سياستنا هي السماح لموظفيهم بمواصلة العمل وتوريد السلع إلى السوق مع تجميد تحركات أموالهم الآن".
ويقول بعض خبراء الاقتصاد إن الوضع الاقتصادي المتردي الذي تعيشه البلاد يفرض على الشركات المحلية الكبرى مواصلة عملها، بغض النظر عن هوية الشركات التابعة لها. وقال الخبير الاقتصادي كرم شعار، في 13 شباط الماضي، إن "على السلطات السورية توخي الحذر قبل شن حملة صارمة على أعوان النظام السابق، لأن هذا قد يؤدي إلى نقص كبير (في السلع)".
مخاوف من إعادة إنتاج "الأوليغارشية" القديمة
أعرب الخبراء عن مخاوفهم من إعادة إنتاج النظام "الأوليغارشي" القديم. ففي ظل حكم الأسد المخلوع، كان الاقتصاد مبنياً على شبكات فساد أدت إلى تركيز الثروة بأيدي فئة قليلة مقربة من النظام، وهو أحد أسباب انفجار الأوضاع وانطلاق ثورة 2011، بحسب الباحث والمحلل السياسي نادر الخليل.
وقال الباحث إن عمليات التسوية والتعويم تعيد "الحيتان السابقين" مقابل تنازلات معينة، ولكن دون محاسبة كاملة، ما يمنع ظهور نخب جديدة من المجتمع، بسبب تعزيز النفوذ الاقتصادي لهؤلاء الرجال بتحالفهم مع السلطة العسكرية.
بينما يرى الباحث والمحلل السياسي لؤي صافي أن الحديث عن تعويم "حيتان المال" المرتبطين بالأسد ينطوي على كثير من المبالغة في طبيعة العلاقة بينهم وبين الإدارة الحالية، والأمر يقتصر على محاولة الحكومة معرفة وتفكيك هيكلية الاقتصاد الخفية التي تكونت خلال حكم الأسد، رغبة بالعثور على رؤوس الأموال واستعادتها لمصلحة الإدارة الجديدة.
وبحسب تقرير "رويترز" استطاعت الحكومة السورية استعادة أصول تزيد قيمتها على 1.6 مليار دولار، واستحوذت على شركات في تكتل كان يسيطر عليه في السابق مقربون من الأسد، مثل شركة الاتصالات الرئيسة والتي تبلغ قيمتها ما لا يقل عن 130 مليون دولار.
وتابع صافي حديثه قائلاً إنه ليس هناك ما يشير إلى وجود رغبة لدى حكومة الشرع في تعويم رجال الأسد، ولكن المشكلة الأساسية في اللغط القائم حول هذا الملف ترتبط بصمت الحكومة الجديدة عما يجري في هذا الإطار، وغياب الشفافية الإعلامية، وهو أمر لا يصب في مصلحتها، إذ ثمة حاجة ماسة إلى رفع مستوى الشفافية وتطوير أساليب الحوكمة في البلاد.
واتفق خبير الاقتصاد السياسي أيمن الدسوقي والمحلل السياسي نادر الخليل والباحث والمحلل السياسي لؤي صافي على أن هناك حاجة إلى تطوير أدوات الرقابة الشعبية والتشريعية على رجال الأعمال الجدد والنشاط الاقتصادي، وتطوير القوانين السورية لمنع إعادة إنتاج الفساد المالي، عبر مساعي الشركات وأصحاب الأعمال للحصول على امتيازات خاصة على حساب المصالح العامة للمواطنين.
تعويم يهدد مسار العدالة الانتقالية
لم تكن الانتهاكات والجرائم المرتكبة بحق السوريين طوال الـ 15 عامًا الماضية مرتبطة فقط بالفعل المباشر، بل تقع في محيطها وخلفها في كثير من الحالات شبكات ومنظومات داعمة ومستفيدة، وفي مقدمة هذه الشبكات رجال المال والأعمال وأثرياء الحرب الذين كانوا جزءًا من تمويل آلة الحرب.
قال الباحث في مركز "الحوار السوري" نورس العبد الله إنه لا بد من الوعي بخطورة موضوع تعويم "حيتان المال" السابقين، فإعادة دمج مثل تلك الشخصيات يؤثر على الذاكرة الجماعية، وبناء السردية الوطنية الجديدة، وإضعاف مبدأ المساءلة، وفتح الباب أمام إفساد الحياة العامة مجددًا، فضلًا عن أثرها الخطر في إضعاف الثقة العامة بالسلطة ومؤسساتها.
وبحسب العبد الله يمكن للحكومة السورية الاستفادة من تجارب حول العالم اعتمدت على حلول مرنة لمعالجة الأمر، ومن أبرز تلك الحلول التحقيق وجمع الملفات القانونية بالتزامن مع اتخاذ تدابير احترازية، ومن ثم القيام عبر بوابة قانونية سليمة، بعد إقرار قانون للعدالة الانتقالية، بإجراء المصادرة للخزينة العامة، أو حتى إبرام تسويات واضحة وشفافة وفق منطق المصالحة على الجرائم الاقتصادية، دون إغفال الحقائق أو إنصاف الضحايا.
ولا يمكن طي محاسبة هؤلاء "الرجال" بأي شكل كان، فقد ارتبطوا وشركاتهم بدعم انتهاكات وجرائم نظام الأسد ماليًا، وهو ما يعد مشاركة فعلية بها، وإجراءات المساءلة القضائية أو غير القضائية، وصولًا إلى التسويات المالية مع شخصيات كهذه، يجب أن تضمن عدم التعويم مجددًا بغية منع شبكات مماثلة من إعادة التموضع في الحياة العامة السورية، فهي قادرة وبسرعة شديدة، حال التغافل عن خطورتها، على إفساد المؤسسات والعبث بالحياة السياسية، وصولًا إلى التآمر على الأمن والاستقرار في سوريا الجديدة.