الأحد, 14 سبتمبر 2025 11:58 PM

سوريا: هل تسبق الحاجات الأساسية الديمقراطية؟ الإنسان أولًا قبل شكل الحكم

سوريا: هل تسبق الحاجات الأساسية الديمقراطية؟ الإنسان أولًا قبل شكل الحكم

يجري في سوريا حاليًا الإعداد لتشكيل مجلس تشريعي انتقالي يتكون من 210 مقاعد. سيتم اختيار 140 عضوًا من خلال انتخابات غير مباشرة تديرها لجان مناطقية، مع الأخذ في الاعتبار التنوع الديني واللغوي والطبقي. أما المقاعد الـ 70 المتبقية، فسيعينهم الرئيس بهدف إدخال التكنوقراط والخبراء في مجالات الاقتصاد والقانون والإدارة (أو هكذا يُفترض على الأقل).

من الضروري أن ندرك منذ البداية أن هذا البرلمان سيكون شكليًا إلى حد كبير، فهو ليس منتخبًا بشكل مباشر من الشعب ولا يعبر بالكامل عن إرادته. يجب أن يقتصر دوره على إدارة المرحلة الانتقالية فقط. بالإضافة إلى ذلك، لا تزال أجزاء من البلاد، مثل شرقي سوريا ومحافظة السويداء، خارج سيطرة الدولة، مما يجعل أي مجلس تشريعي منقوص الشرعية ما لم يتم التوصل إلى تسوية سلمية شاملة، وهو أمر قد يستغرق شهورًا أو حتى سنوات.

تجارب الدول الأخرى، سواء المتقدمة أو المتأخرة، تذكرنا بأن شكل الحكم بعد الانهيارات الكبرى لا يستقر من المحاولة الأولى. على سبيل المثال، عاشت فرنسا 13 عامًا تحت الجمهورية الرابعة بعد الحرب العالمية الثانية، وهي مرحلة اتسمت بالتخبط السياسي الشديد، قبل أن تنتقل إلى الجمهورية الخامسة بدستور عام 1958، الذي لا يزال ساري المفعول حتى اليوم. شهدت البرتغال وضعًا مشابهًا بعد سقوط دكتاتورية سالازار، وكذلك إسبانيا لفترة محدودة بعد سقوط فرانكو، قبل أن تستقر الأوضاع في جميع هذه الدول لاحقًا.

في المقابل، أخفق العراق عندما بدأ بمجلس حكم انتقالي، وكذلك لبنان، الذي كرّس اتفاق “الطائف” صيغة المحاصصة فيه، فتحولت من حل مؤقت إلى نظام دائم يعيد إنتاج نفسه بأسماء ووجوه متشابهة، بل أحيانًا هي نفسها، منذ أكثر من ثلاثة عقود. الفرق بين الحالتين ليس في صيغة البرلمان بحد ذاتها، وإنما في قدرة المجتمع على النظر إلى البرلمان ومراحله الانتقالية كجسر عبور لا كمصيدة أبدية. لذلك، فإن الأولوية اليوم ليست لشكل الحكم، لأنه قابل للتغيير، بل لبناء الإنسان السوري نفسه، ليصبح قادرًا على تحقيق ديمقراطيته والدفاع عنها.

الخطوة الأولى في هذا المسار واضحة: تلبية الحاجات الأساسية. هذا ما أكده عالم النفس الأمريكي أبراهام ماسلو في هرمه الشهير، حيث يبدأ الإنسان بالبحث عن الغذاء والماء ثم الأمان، قبل أن يفكر بالانتماء وتحقيق الذات. القفز مباشرة إلى قمة الهرم، أي إلى الحرية السياسية، يعني مؤسسات فارغة فوق مجتمع جائع. الفكرة نفسها بلورها إريك فروم في كتابه الشهير “الهروب من الحرية”: “حين يفتقد الإنسان الأمان، قد يرى الحرية عبئًا ثقيلًا فيهرب منها إلى أحضان دكتاتورية توفر له وهم الطمأنينة”.

هذا المنطق لم يقتصر على علماء النفس فقط، بل أكده أيضًا علماء الاقتصاد والاجتماع، من بينهم أمارتيا سن، الحائز على جائزة “نوبل” في الاقتصاد، الذي درس تجربة الهند بعمق، وشدد في نظرياته على مفهوم القدرات (capabilities)، أي أن الديمقراطية ليست مجرد صناديق اقتراع، بل قدرة فعلية للإنسان على أن يتعلم ويعمل ويعيش بكرامة. فإذا غابت هذه القدرات فلن تصمد الديمقراطية.

المثال الهندي كان لافتًا: صحيح أن الفقر ظلّ قائمًا، لكن وجود الصحافة والانتخابات منع وقوع مجاعات كما حدث في جارتها الصين، لأن الحكومة لم تعد قادرة على تجاهل أصوات الناس، كما فعل الزعيم الصيني ماو. ومع ذلك، بقيت ديمقراطية الهند ناقصة بسبب ضعف الاستثمار في التعليم والصحة.

ما قاله سن يلتقي مع ما توصل له كارل ماركس قبل قرن، وإن طرحه بلغة حالمة ثورية. فالمجتمع اللاطبقي، حيث المساواة المطلقة كما تخيلها ماركس، لا يمكن أن ينشأ إلا في دول صناعية قوية مثل ألمانيا أو إنجلترا، حيث توجد طبقة عاملة منظمة ونقابات نشطة. أما المجتمعات الفقيرة والضعيفة، فلم يكن يعول عليها في بناء العدالة الكاملة. حتى لينين، حين بدأ تجربته في روسيا، كان يعي أن نجاحها يظل ناقصًا ما لم تنتصر الثورة في ألمانيا. الفكرة إذًا واحدة: لا حرية ولا مساواة ولا عدالة من دون قاعدة قوية.

من هنا يصبح واضحًا أن البنية الفوقية للدولة الآن ليست ذات أهمية كبرى، حتى لو أُنجز أعظم برلمان أو أُقرت أفضل القوانين، فلن تصمد إذا لم يُبنَ الإنسان أولًا. والمقصود ببناء الإنسان ليس شعارًا أدبيًا أو مصطلحًا ثوريًا، بل حقيقة واقعية: تأمين مقومات الحياة الأساسية من مأكل ومشرب وفرص عمل وتعليم وصحة، ثم الحفاظ على أمن الفرد وحريته، وتعليمه فن الاعتراض ورفض الاستكانة.

الاعتراض هنا ليس اختلاقًا ولا كذبًا ولا حربًا إعلامية، بل مواجهة الأخطاء الحقيقية وتسمية التجاوزات كما هي. عندها فقط يصبح بناء الدولة ممكنًا بحق، دولة تقف على أقدامها وتستمد قوتها من مواطنين أحرار وواعين.

لذلك، فإن مشروع بناء مستشفى، أو مدرسة، أو توفير فرصة عمل، أو منصة إعلامية تتمتع بحرية كاملة، هو اليوم أهم بكثير من أي قانون برلماني. فالمؤسسات لا تحمي الناس ما لم تُلبَّ حاجاتهم الأساسية، بينما الإنسان الذي يملك عملًا وعلاجًا وتعليمًا هو وحده القادر على حماية مؤسساته وصون ديمقراطيته. الأولوية ليست في القوانين على الورق، بل في الحياة اليومية التي تمنح المواطن القدرة على أن يكون شريكًا حقيقيًا في بناء الدولة.

مشاركة المقال: