في كل مرة أزور فيها الطبيب في دمشق، أشعر وكأن قلبي يعاتبني قائلاً: "ماذا فعلتِ بي؟" وسؤال يتردد صداه: ماذا فعلتُ به حقاً؟ وماذا فعل الزمن بنا؟ نحن لا نختار لحظة الميلاد، ولا لحظة الشوق والحب، ولا لحظة الشقاء والهموم، ولا لحظة سقوط الألم على أجسادنا، ولا لحظة الوداع الأخيرة للحياة. فالإنسان ابن زمانه ومكانه. لقد عشتُ حياتي في نعيم الحياة عندما تختفي الأشياء الخشنة والقبيحة، وعشتُ في رياحها العاتية وزوابعها القاسية.
لطالما توكأتُ على قلبي واستندتُ إليه، وأحسستُ به كل شيء، كل كائن، كل صوت، كل شكل، كل لون، وكل حلم. لم تعلمني الحياة أن أنسى قلبي أو أمنحه إجازة طويلة من الانفصال. كم مرة رثى قلبي لتعاسة الإنسان، وخفق منفعلاً لقسوة الزمن! وكم مرة هزني جمال الطبيعة والجمال الإنساني، فجعل قلبي يرفرف كعصافير الربيع! وكم مرة اضطرب هذا القلب وهو يواسيني، ويحمل شجوني وهواجسي وأحلامي! وكم من ملايين المرات طافت الدماء المتدفقة منه في جسمي، وحملت إليه آثار كل هذه الانفعالات، وكل هذا القلق والملل!
ذات يوم، ذهبتُ إلى طبيب في دمشق، فحص جسمي يميناً وشمالاً، وقوفاً واسترخاء، وقال لي: "ليس في جسمك مرض معين، وإنما أنت تعانين من ارتفاع شديد في ضغط الدم! لا بأس عليكِ، سنضع ضغط دمك تحت السيطرة!" وأضاف، وكأنه يتكلم إلى إنسان يسكن في المريخ: "إن أحسن طريق للقضاء على ارتفاع ضغط الدم هي أن تقيدي عملك وأسلوب حياتك، وخذي الحياة ببساطة شديدة، ودعي نفسك للمرح كلما استطعتِ."
كانت كلماته غريبة على أذني، فالكتابة قدري وحبي، والفتور غريمي وعدوي. وهل يستطيع الإنسان أن يهرب من دمه أو يهجر حبه الحقيقي؟ ليتني لم أحب الكتابة، وليتني كنت فلاحاً أمياً، وعندها كنت أستطيع أن أغير أسلوب حياتي وشجوني! وهنا أعجبني بعض كبار الأطباء في دمشق، أنهم يعيشون (أساتذة) أمام مرضاهم، وتلاميذ أمام نتائج البحوث الطبية الجديدة التي تتدفق من مراكز البحث في العالم بلا توقف وبلا نهاية.
من أهم الموضوعات التي تشغل فريقاً كبيراً من الباحثين الآن مشكلة (التوتر والاسترخاء والعلاج الطبيعي)، فالجسم مليء بالأسرار التي لم يتم اكتشافها كلها، أو معرفة أسرار (العقل) والقلب والعضلات وأعضاء الجسم. وآه للإنسان، من المكانة التي يشغلها في هذا الكون! إنه أمير المخلوقات وسيدها، وإن طموحه الدائم أن يبسط نفوذه على الأرض والفضاء والكواكب، ويسخرها لأغراضه.
في زمن القلق يرتفع صوت العلماء ويضيع صوت الشاعر. إنه الزمن الذي ارتفع فيه صوت العلماء بالخير كثيراً، وبالشر كثيراً، وضاع فيه صوت الشعراء دائماً. إنه زمن القلق والتوتر وتجارب العلماء والأطباء للوقوف في وجه هذا التيار، والمكتوب على جبين الأديب أن ينفعل من أعماقه، حتى لا يقتل الفتور كلماته. وقد قال لي الطبيب المعالج: "حقاً كل من يبدع شيئاً جديداً يكون في حاجة إلى أن ينفعل، ولكن المطلوب هو أن يتحكم الكاتب في درجة انفعاله!" وها أنذا تلميذ في المرحلة الأولى من العلاج. يقول لي عقلي: طبّق كلام الطبيب، فهو أستاذك!
اخبار سورية الوطن 2_وكالات _الحرية