الأربعاء, 1 أكتوبر 2025 11:31 AM

أسطول الصمود: مبادرة شعبية تفضح صمت الأنظمة العربية تجاه حصار غزة

أسطول الصمود: مبادرة شعبية تفضح صمت الأنظمة العربية تجاه حصار غزة

عماد ياغي: البحر يكشف الحقائق التي تتجاهلها البرّ. في البحر تكمن الحقيقة، فالأمواج لا تعرف المجاملات، والرياح تتجاوز الحدود، والسفن لا تستأذن الحكومات للإبحار. من قلب المتوسط، انطلق أسطول الصمود العالمي، صرخة إنسانية تحمل معاناة غزة وتسعى لكسر الحصار.

الأكثر إيلاماً من الطائرات الإسرائيلية المسيّرة هو صمت العواصم العربية، الذي يكاد يرقى إلى التواطؤ أو الانسحاب من المسؤولية. بينما المتضامنون من آسيا وأوروبا وأميركا اللاتينية يلوحون بالحرية، يغرق الموقف العربي في بيانات جوفاء لا تسد جوعاً ولا ترفع حصاراً.

ولادة الأسطول: إرادة شعوب لا قرارات حكومات

لم يولد أسطول الصمود من رحم جامعة عربية أو مجلس وزراء عربي، بل من إرادة الشعوب، من اتحادات طلابية وحركات شعبية ومنظمات مدنية وتحالفات إنسانية، انطلقت من جنوة وبرشلونة وتونس وماليزيا. حملت السفن من إيطاليا أدوية وأغذية، ومن إسبانيا الأعلام واللافتات، وانضم المتضامنون من اليونان، وأبحرت قوافل من آسيا تحمل اسم «نوسانتارا». لم يسأل هؤلاء المتطوعون عن موازين القوى، بل عن كيفية إيصال صوت غزة للعالم.

إنها ملحمة تذكرنا بشعر المتنبي: «إذا غامرت في شرف مروم...». مغامرة تسعى لكسر الحصار المفروض على غزة براً وبحراً وجواً، والأكثر إيلاماً، بالصمت العربي.

البحر مسرح التحدي

لم يكن الطريق سهلاً. طائرات مسيّرة هاجمت الأسطول قرب جزيرة كريت بقنابل صوتية ومواد مهيّجة. واجهت السفن أعطالاً في المحركات، وأجبرتها الرياح على تأجيل المسير. حشدت إسرائيل بحريتها وهددت بإيقاف الأسطول بالقوة. لكن كل موجة كانت اختباراً، وكل ميل مقطوع كان إعلاناً أن الإنسانية أقوى من الحديد. هنا يكمن معنى الصمود: الإبحار رغم المخاطر.

النقابات العمالية: من الصمت إلى الفعل

قد يظن البعض أن دور النقابات يقتصر على تحسين الأجور، لكن التاريخ يثبت دورها في التحولات الكبرى، من جنوب أفريقيا إلى بولندا وأميركا اللاتينية.

في أسطول الصمود، لعبت النقابات دوراً هاماً:

  • سهّلت حركة الشحن والتفريغ في الموانئ.
  • جمعت التبرعات وقدمت المعدات في المصانع.
  • حرّكت الرأي العام بالمسيرات والبيانات في الشوارع.
  • هيّأت الغطاء القانوني لمواجهة الاعتقالات في المحاكم.

أثبتت النقابات أن العامل قد يكون أكثر تأثيراً في نصرة غزة من وزير عربي يوقّع بيانات متناقضة.

التخاذل العربي: صمتٌ يساوي مشاركة

لا يمكن الحديث عن أسطول الصمود دون الإشارة إلى التخاذل العربي. كيف لسفن قادمة من أقاصي الأرض أن تبحث عن ممر إلى غزة، بينما الموانئ العربية الأقرب مغلقة؟ كيف يسمح حكام عرب بأن يصبح المتضامنون رهائن للرياح، بينما بلدانهم أقرب؟ إنه عار أن يتصدر الأوروبيون مشهد التضامن، بينما تكتفي الحكومات العربية بالاستنكار أو التنسيق الأمني لمنع مرور هذه التحركات.

هذا التخاذل يكشف الهوة بين الشعوب العربية وأنظمتها. الشعوب تهتف وتجمع التبرعات، بينما الأنظمة تحسب الموقف بالدقيقة والدولار والعلاقة مع البيت الأبيض.

صمود الشعوب والنقابات: الوجه الآخر للعروبة

رغم التخاذل الرسمي، لم تقف الشعوب العربية مكتوفة الأيدي. في تونس، رفض عمال الموانئ عرقلة السفن المتجهة إلى غزة. في المغرب، طالبت النقابات بفتح الموانئ. وفي لبنان، نظمت النقابات مسيرات تضامنية. هذه المبادرات تعبر عن أن العروبة الحقيقية تسكن في قلوب العمال والفقراء والطلاب.

البحر مرآة السياسة

أسطول الصمود يكشف تناقضات العالم: الغرب منقسم، والعرب منقسمون. العالم يراقب: هل يُسمح لسفن صغيرة أن تهزم الحصار الكبير؟ يظهر وجه النقابات كفاعل رئيسي، ووجه التخاذل العربي كجرح نازف.

البعد الإنساني لأسطول الصمود

بعيداً عن السياسة، تقف المأساة الإنسانية في غزة كشاهد على فظاعة الحصار. المسألة ليست مجرد سفن، بل حياة تُسلب. في المستشفيات، تجرى العمليات على ضوء الهواتف، وتتحول غرف العناية إلى مقابر. دواء واحد قد ينقذ حياة طفل، لكنه ممنوع. هنا يطل أسطول الصمود كنافذة أمل.

الجوع يفتك بالأرواح. صور الأطفال الهزيلين ليست مجرد مشاهد، بل مرآة لضمير الإنسانية. هؤلاء الأطفال ينتظرون الأسطول كالفجر. كل شحنة غذاء تتحول إلى عيد.

المأساة تمتد إلى ضمائر المتضامنين. أحدهم قال: «جئت لأنني لا أحتمل أن أرى طفلاً يموت جوعاً». هذا يختصر فلسفة الأسطول: تحالف الضمائر الحرة ضد الصمت والتخاذل. لماذا يأتي الدعم من موانئ أوروبا وأميركا اللاتينية، بينما تصد موانئ عربية سفن التضامن؟

على شاطئ غزة، طفل يلوح لسفينة، وفي مدينة أوروبية، طفل يكتب رسالة تضامن. البحر لم يعد حاجزاً، بل جسراً من الأمل.

في الشوارع العربية، يخرج العمال والموظفون والطلاب في مسيرات تضامن، بينما الأنظمة تلوذ بالصمت. هذه المفارقة تحول التخاذل إلى جرح أعمق.

يتحول أسطول الصمود إلى مدرسة إنسانية، تعلم العالم معنى التضامن العملي. كل عامل يحمّل دواء، وكل طبيب يكتب قائمة أدوية، إنما يعيد كتابة تعريف الإنسانية. السفن تحمل رسالة كونية: «العدل لا يُقاس بميزان القوة، بل بميزان الضمير».

الأسطول يتحدى اللامبالاة، ويعيد للقضية الفلسطينية وجهها الإنساني. الأرقام تتحول إلى وجوه، والصور إلى أسماء، والبحر إلى مساحة أمل. الأسطول لا يقدم مساعدات فقط، بل درساً في الأخلاق.

بينما يستمر الحصار، يظل البعد الإنساني هو الوقود الحقيقي للأسطول. دمعة طفل مريض، وصرخة أم ثكلى، هي التي تحرك الموانئ والنقابات والمتطوعين. يصبح البحر ساحة معركة بين الإنسانية واللاإنسانية، بين الضمير العالمي والتخاذل العربي.

حين يكتب البحر شهادة الشعوب

ربما يصل الأسطول إلى غزة، وربما يُمنع. لكن البحر كتب شهادة جديدة: أن التضامن ممكن، وأن الشعوب قادرة على صنع المعجزات، وأن النقابات قادرة أن تكون جسوراً نحو الحرية.

أما التخاذل العربي، فقد دونه البحر بالصمت. صمت الأنظمة سيبقى وصمة، في حين أن الشعوب ونقاباتها كتبت اسمها في سجل الكرامة. الأسطول ليس مجرد قارب وسفن؛ إنه قصيدة حية عن صمود الشعوب وخيانة الأنظمة وإصرار النقابات.

مشاركة المقال: