الأحد, 5 أكتوبر 2025 04:59 PM

أصول اللهجات السورية: رحلة في الجغرافيا والنطق والتاريخ

أصول اللهجات السورية: رحلة في الجغرافيا والنطق والتاريخ

تعتبر اللهجات السورية من بين الأكثر تميزًا في العالم العربي، فهي تجسد تاريخ البلاد العريق وتراثها الثقافي المتنوع. تنحدر هذه اللهجات من اللغة العربية الفصحى، لكنها طورت خصائص فريدة نتيجة للتأثيرات الثقافية المتعددة التي مرت بها عبر العصور.

لا يوجد حصر دقيق للهجات المتداولة في سوريا، ولكن أبرزها هي: الشامية، الحلبية، الساحلية، الإدلبية، الحورانية، الدرزية، الديرية، والشاوية. ومع ذلك، يلاحظ وجود اختلافات لهجية حتى بين أبناء المنطقة الواحدة.

من الملاحظات غير الدقيقة تصنيف هذه اللهجات بمرجعيات طائفية، وهو تصنيف سطحي يفتقر إلى الأدلة، ويعتمد فقط على الصفة الاجتماعية الشائعة عن المنطقة، دون الأخذ في الاعتبار تاريخ المدن والحضارات المتعاقبة عليها وتفاعلها مع حضارات أخرى أثرت في اللغة واللهجة.

تعتمد الاختلافات الأساسية بين اللهجات السورية بشكل رئيسي على طريقة نطق حرفي القاف والتاء المربوطة. ففي اللهجة الشامية، تُلفظ القاف ألفًا أو همزة، بينما في الحلبية تُفخَّم القاف. وفي اللهجة الديرية، يكون نطقها ثقيلاً ومضمومًا. أما في الساحل، فينطقها البعض قافًا صريحة والبعض الآخر ألفًا مضمومة نسبيًا.

تظهر الاختلافات بوضوح في أسماء الإشارة، فمثلاً "هذا هو" تقابلها "شحّو" بالشامية، و"كوه نيه" بالحلبية، و"ليكو" باللاذقانية، و"هذين نو" بالديرية، و"هاظ هو" بلفظ مفخم في الحورانية.

تتميز اللهجة الشاوية بقلب القاف كافًا أو جيمًا، كما أن هناك مفردات يُقلَب فيها حرف الغين قافًا. بالإضافة إلى ذلك، يختلف المتحدثون باختلاف مسميات الأشياء.

أوضح الدكتور ماهر حبيب، اختصاصي فقه اللغة والأستاذ في كلية الآداب بجامعة "طرطوس"، في حديث لـ"عنب بلدي"، أن البحث في اللهجات معقد وطويل وليس بحثًا علميًا أصيلًا، نظرًا لتعدد العوامل المؤثرة في تكوين اللهجات وصعوبة تحديد أسبابها علميًا. واللهجة، بحسب الدكتور حبيب، هي استعمال فردي-جماعي من اللغة الأساسية.

العوامل المؤثرة في تكوين اللهجات

أشار الدكتور حبيب إلى أنه قديمًا كانت هناك لهجات كثيرة عند العرب، بعضها فصيح وبعضها أفصح، وأن اللغويين القدماء لم يعنوا بدراسة هذه اللهجات إلا لتخريج قراءة قرآنية ما، مؤكدًا أن القراءات القرآنية هي ما حفظ لنا اللهجات العربية القديمة.

وأوضح أن العوامل المؤثرة مختلفة، فهناك من يرجع تعدد اللهجات إلى عوامل جغرافية، وآخرون إلى عوامل نطقية، وبعضهم إلى تأثير لغة الأطفال والقلب المكاني. وأكد أنه لا يمكن تفسير أسباب اختلاف اللهجات بشكل قاطع.

وأضاف أن لهجة أهل الساحل تميل إلى الكسر، بينما تختلف لهجتا مدينتي اللاذقية وجبلة عن لهجتي مدينتي بانياس وطرطوس. واستبعد إمكانية تحديد العوامل، معتبرًا أن البحث اللغوي يصف اللهجة ولا يحدد عوامل نشأتها.

كما لفت إلى اختلافات اللهجات المبنية على تباين مسميات الأشياء، موضحًا أن كلمة "البرّاد" تعني جهاز التبريد في طرطوس، بينما تعني الإبريق عند الحلبيين.

وأشار إلى أن قريتين متجاورتين قد تختلفان كليًا باللهجة، وغالبًا ما يكون السبب هو كيفية نطق الصوائت. وذكر أن بعض المناطق تدغم بعض الأحرف، مثل حي الصليبة في اللاذقية.

وحول وجود تخصصات أكاديمية لدراسة اللهجات، أوضح الدكتور حبيب أنها غير مرغوبة كونها تحوّل الانتباه عن اللغة الأصلية. وأشار إلى محاولات لتكريس اللهجات كلغات، مثل محاولة تحويل اللهجة اللبنانية إلى لغة، وهو أمر مرفوض.

ارتكازات تاريخية

لا يوجد سند تاريخي قاطع لظهور اللهجات المحكية في سوريا، ولكن بعض المراجع تعيد الأمر إلى تلاقح بين اللغات القديمة والعربية الفصحى. ويتهم البعض فترة الاحتلال العثماني بتحريف اللغة ومحاولة تتريك بعض مفرداتها.

من أين جاءت العامية؟

يذكر ياسين عبد الرحيم في كتابه "موسوعة العامية السورية" صعوبة معرفة أصل الكلمات المشتركة بين العربية وغيرها من لغات العائلة السامية، خاصة بين العربية والآرامية. ويضيف أن الآرامية أثرت في العربية تأثيرًا عظيمًا بألفاظها المتعلقة بالصناعة والطب والكتابة.

ويشير الباحث مار غناطيوس يعقوب إلى أن هناك الكثير من الألفاظ التي يتبدل فيها حرف السين شينًا في العربية، وبالعكس. ويذهب أبو العلاء المعري إلى القول بأن آدم كان يتكلم بالعربية في الجنة، ثم تحول لسانه إلى السريانية بعد هبوطه إلى الأرض.

هناك عدد من المعاجم العامية التي يمكن العودة إليها لاكتشاف حجم التداخل بين اللغات السامية ومؤثرات المحيط على ما نتحدث به اليوم من لغة محكيّة في سوريا، ومن أهم المعاجم المختصة بمحكيّة الشام: "معجم ألفاظ العامية اللبنانية" لأنيس فريحة، و"معجم رد العامي إلى الفصيح" للشيخ أحمد رضا، و"الدليل إلى مرادف العامي والدخيل" لرشيد عطية، و"قاموس المصطلحات والتعابير الشعبية" لأحمد أبو سعد، و"غرائب اللغة العربية" للأب رفائيل نخلة اليسوعي، الذي له أيضًا معجم "غرائب اللهجة اللبنانية السورية".

مشاركة المقال: