عنب بلدي – لمى دياب – تستعد سوريا والعراق لإعادة تفعيل خط أنابيب النفط كركوك-بانياس، المتوقف منذ عام 2003 نتيجة للحروب والأزمات السياسية. يُنظر إلى هذه الخطوة كفرصة لإنعاش اقتصادي البلدين واحتمال تغيير خريطة الطاقة الإقليمية.
يعود إنشاء الخط إلى عام 1952، ويمتد بطول 800 كيلومتر تقريبًا، مع قدرة ضخ تصل إلى 300 ألف برميل يوميًا، مما يجعله من أقدم مسارات تصدير النفط في المنطقة. في ظل التحديات الأمنية والاقتصادية، تثار تساؤلات حول تكلفة إحياء هذا المشروع وجدوى إعادة تشغيله.
أوضح الدكتور نوار السعدي، مدير مركز البحوث في جامعة “جيهان” بالعراق والخبير في الاقتصاد الدولي، في حديث إلى عنب بلدي، أن استئناف الحديث عن إعادة تأهيل وتشغيل خط أنابيب كركوك-بانياس يحمل أبعادًا استراتيجية عميقة، قد تعيد رسم خريطة تدفقات النفط الإقليمية وتؤثر على التحالفات الاقتصادية على المديين المتوسط والبعيد. ومع ذلك، يعتمد هذا الاحتمال على شروط أمنية وسياسية وتقنية ليست سهلة التحقق.
وفيما يتعلق بالآثار الاستراتيجية، أشار السعدي إلى أن فتح منفذ للصادرات على البحر الأبيض المتوسط عبر سوريا سيمنح العراق منفذًا بديلاً عن الموانئ المطلة على الخليج، والمرور عبر مضيق هرمز أو الاعتماد على خطوط العبور الحالية نحو تركيا. هذا التنوع في مسارات التصدير لا يعزز فقط مرونة بغداد في تسويق نفطها الخام، بل يمنحها أيضًا ورقة تفاوضية جديدة في علاقاتها مع شركاء التصدير والنقل، مما قد يؤدي إلى إعادة ترتيب بعض التحالفات الاقتصادية الإقليمية، وبالتالي تحويل معيار النفوذ من مجرد ملكية الحقول إلى السيطرة على مسارات التصدير.
تأثير إقليمي ودولي
على مستوى ميزان القوى النفطي بين الدول الكبرى والمصدرين، يرى مدير مركز البحوث في جامعة “جيهان” بالعراق أن إمكانية ضخ مئات الآلاف من البراميل يوميًا إلى البحر الأبيض المتوسط من شأنها تغيير ديناميكية العرض الإقليمية، خاصة إذا كانت الكميات المصدرة عبر المتوسط موجهة إلى الأسواق الأوروبية التي تبحث عن تنويع مصادر الإمداد بعيدًا عن بعض الممرات التقليدية، وهذا ما يضع الموردين الأوروبيين والغرب في معادلة جديدة.
ويرى الدكتور حسن حزوري، الأستاذ في كلية الاقتصاد بجامعة “حلب”، في حديث إلى عنب بلدي، أن تصدير النفط العراقي عبر مرفأ بانياس ومن ثم الموانئ السورية إلى أوروبا سيعطي مزيدًا من المرونة لسوق النفط في أوروبا، خاصة إذا كانت خطط الاستيراد من الشرق الأوسط تتأثر بالسياسة أو العقوبات، مما قد يقلل من الاعتماد الأوروبي على بعض الموردين التقليديين أو المسارات الراهنة.
ويضيف حزوري أن العراق سيتمكن من التفاوض بصلابة أكبر مع الدول التي تمر عبرها خطوط الأنابيب أو الموانئ (تركيا، دول الخليج)، وقد يطالب بخفض رسوم العبور أو المشاركة في عائدات النقل أو ضمانات أمنية.
تحديات التمويل ورهانات العائدات
يشير الدكتور نوار السعدي إلى أن الجدوى الاقتصادية تتطلب قراءة متأنية، لأن تكاليف التأهيل قد تكون مرتفعة جدًا نتيجة لأعطال البنية التحتية القديمة والمتطلبات الأمنية العالية لتأمين خط يمتد بطول 800 كيلومتر عبر مناطق حساسة. كما أن المخاطر السياسية والأمنية في سوريا وطبيعة العلاقات الإقليمية تشكل مخاطرة مرتفعة للمستثمرين وقنوات التمويل الدولية، بالإضافة إلى الحاجة إلى قرارات سيادية واضحة بشأن رسوم العبور والتوزيع وإدارة الشحنات. لذلك، فإن الجدوى الاقتصادية لا تُحسم بمجرد القدرة التقنية على نقل النفط، بل بقدرة الأطراف على ضمان استدامة التشغيل وخفض مخاطر الانقطاع إلى مستوى مقبول لتبرير الاستثمارات المطلوبة.
ويضيف السعدي أن خط كركوك-بانياس يمكن أن يكون له أثر إقليمي بخفض أقساط الشحن والتأمين لبعض الأصناف العراقية ومنح المشترين الأوروبيين مصدرًا بديلاً، مما قد ينعكس على فروق الأسعار الإقليمية أو على شروط العقود طويلة الأجل، ولكن ليس بالضرورة أن يدفع السعر العالمي إلى هبوط كبير ما لم يكن مصحوبًا بتغييرات كمية أكبر أو تباطؤ طلب عالمي ملموس.
ويقدر الدكتور حسن حزوري أن التكاليف قد تصل إلى حوالي ثمانية مليارات دولار لإعادة تأهيل الخط، لاستيعاب طاقة تصدير تقارب 700 ألف برميل يوميًا، مع وجود تقديرات أقل إذا كانت عمليات التأهيل جزئية فقط.
الإيجابيات على الاقتصاد المحلي
يشير مدير مركز البحوث في جامعة “جيهان” بالعراق إلى أن الأثر الاقتصادي غير المباشر للمشروع سيكون ملحوظًا في القطاعات المحلية المرتبطة بالنقل والخدمات اللوجستية، حيث يولد هذا النوع من المشاريع طلبًا واسعًا على خدمات الصيانة والأنابيب والطرق والمرافئ والاستقدام وتطوير مرافق التكرير والتخزين في السواحل السورية والعراقية. ويخلق هذا نشاطًا استثماريًا في المدن والموانئ المتصلة بالخط ويعزز التوظيف المحلي، طالما أن عقود التأهيل مرتبطة بشروط شفافة وتشغيلها تم تنظيمه بشكل يعيد قيمة مضافة للاقتصاد المحلي بدلاً من أن يصبح مجرد عبور يدر عائدات هزيلة للدولة الوسيطة. كما يجب توقع تكاليف أمنية وتشغيلية إضافية قد تثقل ميزانيات البلدين اللذين سيخدمهما الخط.
العائدات المالية وتأثيرها على أسعار النفط
يؤكد الدكتور حسن حزوري أن التأثير على الأسعار العالمية مثل برنت أو خام الشرق الأوسط بشكل عام سيبقى محدودًا ما لم يكن هناك ضخ كميات ضخمة جدًا (مئات آلاف البراميل يوميًا) وبشكل مستمر. وإذا خرج نفط إضافي إلى الأسواق (خاصة الأوروبية) من العراق بكمية كبيرة وأصبح منافسًا للطرق الحالية، فقد يسهم في خفض تكاليف النقل وتخفيض بعض الفروق السعرية أو العمولات، مما قد يخفض أسعار النفط الخام العراقي في بعض العقود على المدى المتوسط.
ويوضح حزوري أن إيرادات العبور السنوية لسوريا تتراوح بين 150 و200 مليون دولار تقريبًا، بناءً على بعض التقديرات. وسيوفر الخط تكاليف تصدير للعراق، لأن المسار عبر سوريا يعد أرخص من الطرق القائمة (مثلًا عبر تركيا أو الجنوب إلى الخليج)، فالتوفير يمكن أن يكون كبيرًا على المدى المتوسط والطويل.
منفذ استراتيجي نحو أوروبا
يرى الدكتور مجدي الجاموس، الأستاذ الجامعي في كلية الاقتصاد بجامعة “دمشق” والخبير الاقتصادي، أن المشروع يأتي في وقت تشهد فيه الأسواق الأوروبية نقصًا في إمدادات الطاقة، لأن أكبر المصدرين هما السعودية وإيران، ولكن بسبب العقوبات المفروضة على إيران فهي لا تصدر إلا للصين. ويعتبر أن إعادة تشغيل الخط قد تندرج ضمن تحالفات دولية جديدة، تتيح للعراق منفذًا نحو المتوسط عبر سوريا، مما يمنح دمشق دورًا محوريًا كممر للنفط العراقي ويعزز مكانة موانيها في العلاقات الاقتصادية مع أوروبا، خاصة في ظل سياسات استقطاب الاستثمار الأجنبي التي تنتهجها الحكومة السورية حاليًا.
خط أنابيب نفط كركوك بانياس – 28 أيلول 2025 (كوردستان 24)
شروط نجاح المشروع
يرى الدكتور حسن حزوري أن المشروع يمكن أن يكون مجديًا إذا تحققت عدة شروط:
- ضمانات أمنية مستقرة.
- استثمار أولي كبير من طرفين (العراق وسوريا، وربما شركاء دوليين).
- تأكيد عدم وجود عقوبات تمنع المشترين الأوروبيين.
- عقود شراء مطمئنة لفترات طويلة.
ويعتقد مدير مركز البحوث في جامعة “جيهان” بالعراق أن المشروع يحمل فرصة استراتيجية للعراق لأنه يسعى لتنويع مسارات التصدير، لكنه ليس حلاً سحريًا ولا بديلاً عن الإصلاحات الداخلية الضرورية، إذ لا يكفي فتح أنبوب ليصبح للعراق اقتصاد أقوى، بل يتطلب الأمر تأمينات سياسية طويلة الأمد واستراتيجيات تمويل واضحة وقدرة على إدارة المخاطر الأمنية، فضلاً عن عقود تشغيلية شفافة تضمن مردودًا قوميًا حقيقيًا، فالمردود السياسي والاقتصادي للمشروع سيعتمد على ما إذا كانت بغداد قادرة على فرض قواعد لعب واضحة تحمي المال العام وتستثمر العائدات في تنمية منتجة بدلاً من استنزافها أو تركها رهينة صراعات إقليمية.
وتوضح أحدث بيانات وحدة أبحاث الطاقة أن واردات سوريا من النفط الخام المنقولة بحرًا قفزت لأكثر من 56 ألف برميل يوميًا خلال تموز الماضي، مقابل 13 ألفًا في الشهر نفسه من عام 2024. ومع ذلك، تراجع متوسط واردات البلاد من الخام خلال الأشهر السبعة الأولى من العام الحالي إلى 38 ألف برميل يوميًا، مقابل 41 ألفًا في الفترة نفسها من العام الماضي.
وتظهر محاولات إحياء خط أنابيب النفط كركوك-بانياس أن المشروع لا يزال يحتفظ بأهميته الاستراتيجية رغم كل الظروف، فبالنسبة للعراق يمثل خطًا حيويًا لتنويع طرق تصدير النفط، بينما يفتح لسوريا فرصة لاستعادة دورها كمعبر للنفط، إضافة إلى حصولها على النفط العراقي بصورة مباشرة بسعر أرخص، ما يسهم بدوره في خفض فاتورة الاستيراد.